ثائر صالح
أتوقف قليلاً لأقطع كتاباتي عن رحلتي الألمانية في حزيران الماضي من أجل التحدث عن الذكرى الخمسين لوفاة الموسيقي الروسي دمِتري شوستاكوڤيچ (1906 - 1975) التي مرت يوم 9 آب الجاري. كان شوستاكوڤيچ وجهاً يمثّل الاتحاد السوفيتي في العلاقات العامة الدولية في الشأن الموسيقي منذ الستينيات، رغم علاقته المرتبكة بالسلطة السوفيتية في عهد ستالين. فقد تعرض شوستاكوڤيچ للنقد عدة مرات من طرف ستالين - بشكل غير مباشر - في كانون الثاني 1936 للمرة الأولى بعد حضور ستالين عرض أوبرا "ليدي ماكبث من متسنسك" شخصياً، ثم للمرة الثانية في 1948 بعد الهجوم الشديد الذي وجهه أندري جدانوڤ لأعمال شوستاكوڤيچ وبروكوفييڤ وخاچاتوريان واتهامهم بالشكلانية، واضطراره إلى كتابة أعمال دعائية تمجد ستالين مثل "أغاني الغابة" وإخفاء الأعمال الأخرى التي اعتبرها لا تنسجم مع تطلعات السلطة. ثم أرسله الاتحاد السوفيتي إلى نيويورك للمساهمة في المؤتمر العالمي الثقافي والعلمي من أجل السلام في 1949، وهناك اضطر إلى تأييد الإدانة السوفيتية لموسيقى ستراڤنسكي رغم إعجابه بها. لكن الأمر اختلف بعض الشيء بعد وفاة ستالين في 1953، وما عاد تدخل السياسة في العملية الإبداعية بمثل فضاضة العهد الستاليني بل اتخذ سبلاً اخرى أكثر دهاء وأقل عنفا.
انتمى شوستاكوڤيچ إلى الحزب الشيوعي السوفيتي في 1960 وأصبح عضواً في مجلس السوفيت الأعلى، وقاد اتحاد المؤلفين الموسيقيين حتى وفاته في 1975، وأصبح أحد أوجه الحياة الموسيقية السوفيتية في العالم، وعقد صداقات شخصية مع العديد من أبرز الموسيقيين العالميين. كتب في تلك الفترة أعمالاً عن الأحداث الجسام قبل الفترة الستالينية، مثل السيمفونية الحادية عشرة (عن ثورة 1906) والثانية عشرة (عن ثورة 1917) والقصيدة السيمفونية "أكتوبر"، في المقابل استمر في تضمين أعماله رسائل مشفّرة مثل الاقتباسات الموسيقية واستعمال أسماء النغمات للتعبير عن آرائه، مثل استيائه من قمع الثورة المجرية في 1956 من قبل الجيش السوفيتي في رباعيته الوترية الثامنة التي عنونها "إلى ضحايا النازية والحرب" والتي قصد منها ضحايا التوتاليتارية كذلك بحسب ابنه ماكسيم وهو قائد أوركسترا وعازف بيانو (ولد في 1938).
استمعت إلى شيء من موسيقى شوستاكوڤيچ مبكراً، كان ذلك قبل وفاته بفترة وجيزة، ربما في 1974. لذلك أتذكر جيداً تأثري عند سماع خبر وفاة الموسيقار في صيف بغداد اللاهب، وكيف التقيت أحد الأصدقاء في شارع النهر الذي كان يرافق ضيفاً أجنبياً على وزارة الإعلام حيث عمل هذا الصديق وإبلاغه بهذا الخبر المؤسف. لا أخفي سراً إن قلت أن بدايات اهتمامي بشوستاكوڤيچ كانت بسبب تناوله مواضيع سياسية في تلك الفترة التي سيطرت عليها الإيديولوجيات، قبل أن يتوضح لاحقاً البعد الإنساني العميق لموسيقاه، وتتجلى أمامنا الصورة المعقدة المتداخلة والمركبة لما يقوله لنا. لذلك أجد اليوم متعة كبيرة في الاستماع إلى أعماله للحجرة حيث برز صوته المتفرد والمميز وليس إلى أعماله الاوركسترالية الضخمة حيث تتسلل ظلال السلطة ودعايتها التي يحاول شوستاكوڤيچ جاهداً مراوغتها وخداعها والسخرية منها، فهو من أبرع الموسيقيين في فن التصوير الساخر المرير.
موسيقى الاحد: الذكرى الخمسين لوفاة شوستاكوڤيچ

نشر في: 10 أغسطس, 2025: 12:15 ص









