ترجمة: حامد أحمد
تناول تقرير لموقع «ذي ناشنال» الإخباري انتشار مشاريع البنيان العمودي الشاهق والأبراج السكنية التي شهدتها العاصمة بغداد خلال السنوات الأخيرة، في وقت يتساءل فيه منتقدون ومعماريون عمّا إذا كانت روح وتراث المدينة قد تُركا خلف الركب وسط استثمارات مضاربية متسارعة دون تنظيم أو تخطيط، هدفها الربح دون التفكير في الحفاظ على تراث المدينة ومصلحة مواطنيها.
فبعد أن كانت بغداد لوحة من الشرفات الخشبية المزخرفة، والواجهات المبنية من الطوب، والفضاءات الداخلية، والأزقة المظللة، أصبح أفق المدينة اليوم تتخلّله أبراج سكنية لامعة، تثير الأمل والجدل في آن واحد.
ويشير التقرير إلى أن هذه الأبراج تغيّر وجه العاصمة العراقية التي أنهكتها الحروب، ويُنظَر إليها على أنها رموز للعودة إلى الحياة الطبيعية، والانتعاش الاقتصادي، وحل طال انتظاره لأزمة السكن. لكن تحت السطح، تدور معركة وجدل حول التقاليد والعدالة ومعنى الانتماء لبغداد.
نور مكية، مصممة حضرية في شركة استشارات معمارية، تقول لموقع «ذي ناشنال»: «بغداد تشهد كثافة عمرانية متسارعة دون تخطيط أو تنظيم كافٍ. هذه مشكلة شائعة في المدن النامية أو الخارجة من النزاعات، حيث تدفع الضغوط الاقتصادية نحو تطوير غير منظم دون مراعاة لأنظمة التخطيط أو قوانين البناء».
وترى مكية أن المال والاستثمارات المضاربية تجعل التنمية أولوية على حساب العنصر الإنساني، مما يؤدي إلى أن يكون البناء مدفوعًا بمفاهيم مجردة مثل النمو والربح، بدلًا من الأهمية الثقافية أو رفاهية السكان.
على مدى السنوات الخمس الماضية، شهدت بغداد تحولًا غير مسبوق منذ إعادة إعمارها بعد الحروب. فمن المجمعات الضخمة على طريق المطار إلى مشروع مستوحى من عمارة الزقورات بطابع عصري من الزجاج، تبني العاصمة على نحو عمودي إلى الأعلى وبوتيرة سريعة.
سعد حمودي، مواطن بغدادي، يقول: «عندما كنت طفلًا، كانت بغداد تتنفس، أما الآن فإنها تختنق».
بالنسبة للبعض، التغيير مرحّب به. يقول معتز جلال (32 عامًا) إن الأبراج الجديدة تمثل له أكثر من مجرد مبانٍ من الخرسانة، بل هي مخرج من الواقع القديم.
ويضيف بقوله: «لا أريد أن أعيش في نفس البيوت المزدحمة والقديمة التي عاش فيها والدي». انتقل جلال مؤخرًا مع زوجته إلى شقة في مجمع مسوّر غربي بغداد. ويقول: «أخيرًا أصبح لدينا مكان نظيف وآمن مع مواقف سيارات وخدمات عامة مستقرة. نشعر أننا جزء من بغداد مختلفة».
لكن المشهد الجديد لرافعات البناء وهياكل الأبراج المكتملة جاء بثمن باهظ.
صحيح أن هذه المشاريع ساهمت جزئيًا في معالجة أزمة السكن، لكنها أضافت آلاف السكان إلى مناطق مكتظة أصلًا، مما زاد الضغط على المرافق العامة والخدمات وحتى حركة المرور. كما تم تحويل العديد من البساتين والحدائق العامة إلى استثمارات خاصة وأبراج سكنية حديثة.
بعض الأبراج بُنيت متقاربة جدًا، بلا مساحات خضراء كافية، بينما يشتكي بعض السكان من تدني جودة البناء رغم الأسعار الباهظة، كما أن المساحات الخضراء التي وُعدوا بها على المخططات لم تظهر على أرض الواقع.
المهندس المعماري حازم محمد يقول: «ما يجعل بغداد فريدة بين مدن العالم هو روحها المميزة. بعض المجمعات السكنية بُنيت وسط أحياء بغدادية تقليدية، وكان السكان مذهولين حين وجدوا أبراجًا بارتفاع 20 طابقًا تطل على بيوتهم، وأنهت خصوصيتهم».
ويرى محمد أن هذه الأبراج «غريبة» عن بغداد التي عُرفت يومًا بالتخطيط الأفقي وبالترابط الاجتماعي الوثيق بين سكانها.
أما اليوم، فإن العديد من الأبراج أُغلقت ببوابات حديدية، وأصبحت مجتمعات معزولة بحد ذاتها.
ويحذر محمد قائلًا: «هذا يؤدي إلى تفكيك النسيج الحضري الأصلي لبغداد. ليس ضروريًا أن تحتوي المدينة على أبراج كي تُعد متطورة. هناك مدن توسعت وتطورت مع الحفاظ على نسيجها الحضري الأصلي».
لكن كثيرًا من البغداديين يرون أنهم يعيشون الآن في مدينة مختلفة، وأن مدينتهم القديمة لم تعد موجودة إلا في ذاكرتهم.
يتساءل سعد حميد (78 عامًا)، وهو يشير إلى مجموعة من الأبراج السكنية: «أين أشجار نخيل التمر التي كانت تتمايل؟ وأين ضحكات وأصوات الأطفال في ساحات وأزقة الأحياء المظللة بالأشجار؟ الآن كل ما أسمعه هو أزيز المولدات وصوت أعمال البناء».
وينتقد حميد هذا التوجه قائلًا: «نحن نقلّد النماذج العمودية لمدن مثل دبي أو إسطنبول دون أن نسأل: هل هي مناسبة للثقافة والمجتمع البغدادي؟».
ويؤكد: «بغداد ليست مدينة أبراج، هي مدينة أحياء بأسطح مشتركة، وأزقة تتجاور فيها الأجيال. عندما كنت طفلًا كانت بغداد تتنفس، الآن تختنق».
ارتفعت أسعار العقارات في بغداد خلال العقد الماضي بشكل كبير. ويقول سماسرة ومسؤولون حكوميون إن النخب السياسية المرتبطين بها يرفعون أسعار الأراضي عبر مشاريع مضاربية، ويستخدمون العقارات كأداة لتخزين الثروة في اقتصاد مضطرب.
وبالنسبة للعراقيين من الطبقة المتوسطة، يبقى حلم امتلاك سكن في هذه المجمعات بعيد المنال. تتراوح أسعار الشقق والمنازل في المجمعات الجديدة ببغداد من 1,000 دولار إلى ما يقارب 6,000 دولارات للمتر المربع الواحد.
يقول حميد: «المدينة تُبنى للأغنياء وبواسطة الأغنياء. أزمة السكن ليست مسألة عرض فقط، بل مسألة إمكانية الحصول عليه. أنا لست ضد التغيير، لكن يجب أن يكون مخططًا له برؤية تحافظ على التقاليد والذاكرة، وإلا فهو مجرد إهمال لهذه الأمور».
عن «ذي ناشنال» الإخباري










