ستار كاووش
لماذا تكون بعض الأعمال الفنية جميلة؟ ما سبب توقفنا أمام لوحة معينة دون غيرها؟ وما هو الحافز الذي يجعلنا نتعاطف مع هذه المنحوتة ونُحبها دون سواها؟ أسئلة كثيرة تخطر في أذهاننا حول ماهية العمل الفني والأسرار التي تجعله قريباً منا أو تبعده عنّا.
علينا اولاً أن نقفَ أمام العمل الفني ونمنحه كل وقتنا، لا نتردد ولا نتململ، بل ننظر اليه كصديق نود التحدث معه، أو شريك في العمل نرغب بمقاسمته أفكارنا. في أحيان كثيرة هناك اشعاع خاص وخفي يبثه العمل الفني بإتجاه المشاهد، وعلى هذا الأخير أن يكتشفه ويتحسسه، لا أن يكون في عجلة ويمر مرور الكرام. وفي الوقت ذاته علينا أن نعرف أيضاً أن هناك (أعمالاً فنية) لا تملك قيمة كبيرة ولا تحمل الكثير من الجاذبية للعين، لذا لا يمكن التوقف عندها كثيراً.
فما هو الحل، وقد إمتلأت المتاحف وقاعات العروض وأماكن اخرى كثيرة بأعمابٍ فنية مختلفة ومتفاوتة في قيمتها الجمالية والابداعية والتاريخية؟ هل نمضي هكذا عفو الخاطر ونتوقف أمام كل ما يصادفنا؟ أم أن هناك نوعاً من التخطيط الذي يسبق المشاهدة؟ شخصياً عند دخولي الى أي متحف، تكون في ذهني خطة مسبقة لمحتوياته، وأين سأقف وما الوقت الذي ستتطلبه مني الأعمال فى هذه الصالة أو تلك الزاوية، وبذلك أتجنب الإرهاق وإضاعة الكثير من الوقت، فأنا وبحسب الزيارات المنتظمة التي أقوم بها للمتاحف، لديَّ ثلاث ساعات أكون فيها بكامل تركيزي وإستعدادي النفسي والجسدي للوقوف بأريحية أما الأعمال الفنية، وبعدها ستخفت الكثير من الحوافز وتقل الاستعدادات وتُشَوَّش الرؤية، لذا غالباً لا أبقى أكثر من هذا الوقت داخل أي متحف، وأما أن أخرج للحصول على إستراحة قصيرة وأعود بعدها أو أن أغادر نهائياً. وهكذا فالأسلم لي هو التوقف أولاً أمام الأعمال المهمة تاريخياً وفنياً، أنظر الى الحلول التشكيلية التي إبتكرها الفنان، أتابع معالجاته، وحركة الفرشاة، ومعالجات اللون، أسأل نفسي لماذا اختار الفنان هذا الحجم دون سواه؟ كيف جعل التكوين ناجحاً من خلال تقاطعات الخطوط وتوزيع المساحات؟ ولماذا تعمد لإستعمال طبقات سميكة من اللون في هذه الزاوية من اللوحة، فيما إكتفى بطبقة خفيفة من اللون في مكان آخر؟ وما الغاية التقنية أو العاطفية من بعض السحبات السريعة المرسومة بحرية في خلفية اللوحة أو مقدمتها؟
عليَّ أن أفهم بأن وقوفي أمام لوحة بيتر برويغل وهو يرسم عرساً قديماً لفلاحي الأراضي المنخفضة، أمراً مختلفاً تماماً عن تحسسي عجائن اللون عند فرانسيس بيكون، فلكل منهما تقنيته وزمنه ورؤيته الفريدة، وهنا فالعملة النقدية الجديدة رغم قيمتها العالية لا يمكنها أن تلغي قيمة القطع الذهبية القديمة. والأمر ذاته حين يتعلق بحراس ريمبرانت الليليون ومقارنتهم بتعرجات فينسنت فان خوخ ولمساته المتكسرة، فالأول أراد ان يُظهر لنا الحراس في الموكب المُهيب لدوريتهم الليلية بحضور الكابتن كوك وهم يتجولون وسط أمستردام القديمة فى القرن السادس عشر، فيما عكسَ فينسنت انكسارات روحه من خلال حركة الفرشاة المتقطعة، ورسم عذاباته عن طريق لمساته الملتوية وألوانه الصريحة الخشنة. وحتى الفنانين الذين ينتمون الى وقت واحد تختلف نظرتهم الى الجمال، حيث يفتح كل منهم نافذته الخاصة التي ينبثق منها ضوء مختلف، فحين نتمعن في الشخصيات المسترخية التي يرسمها فيصل لعيبي في المقاهي البغدادية، ثم نمرر بصرنا على الفرسان الذين يسابقون الريح في لوحات عامر العبيدي، نرى كل واحد منهما لديه تكويناته الساحرة وإختزالاته الخاصة وتوازناته المبتكرة، وبكلمات أخرى، كل منهما لديه شخصيته الفنية الفريدة. بشكل عام يتعين علينا النظر الى الوقت الذي ظهر فيه الفنان، لكن الأهم من ذلك هو أن نتأمل أسلوبه وتقنيته وحتى شخصيته، نتمعن في التغييرات والتحريفات التي طَبعَتْ أشكاله، حتى نستطيع بعدها الوقوف أمام لوحاته ومعرفة مساراتها الابداعية وقيمتها الجمالية والتاريخية.
بشكل شخصي أقوم بزيارة المتاحف غالباً في الصباح، وحين أضع قدمي على عتبة أي متحف فأنا ولأسباب عديدة أتجاوز الكثير من الأعمال الفنية، أو في أفضل الأحوال لا أتوقف عندها كثيراً، وخاصة في المتاحف التي تحتوي على أعمال لا حصر لها (كمتحف تاريخ الفن في بروكسل مثلاً، والذي يحتوي على عشرين ألف قطعة فنية). لذا، كفنان ومحب للفن أُفَضِّلُ الوقوف أمام عمل فني واحد ساحر لوقت طويل، على أن أقف أمام أعمال لا تُضيف لي شيئاً، فأنا في الغالب أبحثُ عن اللقى الثمينة التي امتحنها الزمن وصارت نوعاً من الخلاصة الجمالية التي تشير الى أسرار الابداع وروح الابتكار وجوهر الفن.










