المثنى/ خاص
في عمق الريف الجنوبي لمحافظة المثنى، حيث تمتد القرى بين البساتين الجافة والطرق الترابية، يحرم آلاف الأطفال من حق أساسي في حياتهم الأولى: التعليم ما قبل الابتدائي. فرغم التوصيات التربوية والصحية بأهمية مرحلة رياض الأطفال في تشكيل الشخصية وتنمية المهارات، ما يزال الريف المثنوي خاليًا تقريبًا من الروضات الحكومية، ما يترك الطفولة عرضة للإهمال التربوي والنفسي.
قرى بلا روضات
في قضاء الخضر، يروي المعلم محمد جبار الحسني أن هناك أكثر من 15 قرية لا توجد فيها أي روضة حكومية، مشيرًا إلى أن "الأطفال في هذه المناطق يدخلون الصف الأول من دون أن يعرفوا حتى شكل الحرف، وبعضهم لا يتقن نطق الكلمات جيدًا”.
ويضيف لـ(المدى): "الأسر لا تملك القدرة على تسجيل أبنائها في رياض خاصة، إن وُجدت، لأنها باهظة الثمن مقارنة مدخولاتهم المحدودة".
هذا النقص لا يقتصر على قضاء الخضر وحده، فحتى في نواحي مثل الوركاء والسوير، الوضع لا يختلف كثيرًا. الأهالي يعتمدون على التعليم الأسري، وغالبًا ما تكون الأم غير متعلمة أو لا تملك الأدوات الكافية لتهيئة الطفل نفسيًا وذهنيًا للمدرسة.
أثر غياب الرعاية المبكرة
الاختصاصية الاجتماعية هناء العبيدي تؤكد لـ(المدى)، أن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل هي المرحلة الأهم في تكوينه العقلي والسلوكي. وتقول: "الروضة ليست مكانًا للّهو فقط، بل بيئة تعليمية وتربوية تزرع الأساس الذي سيُبنى عليه مستقبل الطفل. غياب هذه البيئة يعني تأخرًا في النطق، وفي التفاعل الاجتماعي، وفي الفهم الأولي للغة والأرقام".
وتوضح أن الطفل الريفي، حين يدخل إلى الصف الأول، يكون في مواجهة فجائية مع بيئة غريبة، وأدوات لم يسبق له التعامل معها، ما يجعله أقل حظًا من أقرانه في المدن الذين مروا بتجربة الروضة. “هناك تفاوت طبقي تربوي يولد منذ الصغر”، تضيف.
نقص التمويل وضعف التخطيط
مصدر مسؤول في مديرية تربية المثنى رفض الكشف عن اسمه أشار في حديث لـ(المدى)، إلى أن الوزارة لم تخصص خلال السنوات الأخيرة ميزانية واضحة لإنشاء روضات في الأرياف، وأن كل ما يُنفذ يأتي من مبادرات فردية أو منظمات. وأضاف: “لدينا خريطة بحاجة إلى تحديث، ولا توجد حتى الآن رؤية واضحة لبناء رياض أطفال في القرى، بل التركيز كله على مراكز المدن”. ويؤكد أن الكثير من المدارس الابتدائية لا تملك مبانٍ مستقلة، فكيف يمكن الحديث عن إنشاء رياض أطفال؟ “نحن أمام فجوة كبيرة بين الاحتياج والواقع”.
المبادرات الأهلية.. حلول مؤقتة
في قرية “آل بو رحيم”، أقامت المعلمة المتقاعدة أمينة سلمان الزيادي صفًا تمهيديًا في منزلها، وتقوم بتعليم 20 طفلًا مجانًا خلال أشهر الصيف.
تقول أم عمار خضير لـ(المدى)، والدة أحد الأطفال: “ابني كان خجولًا لا يتحدث، وبعد هذه التجربة تغيّر تمامًا. صار يعرف الحروف ويحب الدراسة”.
لكن هذه المبادرات، رغم أهميتها، لا تعوض غياب سياسة حكومية واضحة، كما أنها ليست مستدامة. فالمعلمات المتطوعات لا يحصلن على أي دعم مادي أو لوجستي، ويعتمدن فقط على جهودهن الفردية.
الفجوة تتسع.. والقرى تدفع الثمن
تشير أرقام غير رسمية إلى أن أقل من 10 % من أطفال الأرياف في المثنى يلتحقون برياض أطفال، سواء كانت خاصة أو أهلية، ما يسلّط الضوء على حجم الفجوة التعليمية بين الريف والمدينة. هذا الوضع ينعكس لاحقًا على نسب الرسوب والتسرب المدرسي، خاصة في الصفوف الأولى. ويؤكد الباحث التربوي عادل عبد الستار الركابي لـ(المدى) أن الطفل الذي لا يحصل على تعليم مبكر يكون أكثر عرضة للفشل في المراحل اللاحقة.
وأضاف، أن الدولة تهمل هذه المرحلة، لكنها تدفع الثمن لاحقًا في ضعف التحصيل الدراسي، وفي الحاجة إلى برامج علاجية متأخرة”.
المعنيون يرون أن الحل يبدأ بقرار سياسي حاسم من وزارة التربية لإعادة النظر في أولويات البنية التحتية، وتخصيص جزء من ميزانية التعليم لبناء روضات في القرى. كما يُقترح الاستفادة من المدارس الابتدائية ذات البناء الواسع لتحويل جزء منها إلى روضات مؤقتة، ريثما تُبنى مؤسسات مستقلة.
من جهة أخرى، يمكن للمنظمات الدولية، بالتنسيق مع الجهات المحلية، تنفيذ مشاريع صغيرة لرياض أطفال متنقلة أو مجتمعية في القرى الأشد فقرًا، كحلول انتقالية.
يبقى الطفل في ريف المثنى، حتى اليوم، ضحية لغياب الرؤية التربوية المتكاملة، ولتوزيع غير عادل للفرص. وبينما يتلقى أقرانه في المدن الرعاية المبكرة التي تؤسس لمستقبل ناجح، ما يزال هو ينتظر أن يطرق باب المدرسة، من دون أن يعرف كيف يُمسك القلم.










