ضحى عبد الرؤوف المل
يشعر الراوي في قصة "تمرّد" للكاتب الإيطالي لويجي برانديللو بحالة انتظار أو تأهّب، متيقظ لكل شيء حوله، لكنه يشعر بالعزلة. "كنت أنظر إلى الخارج ولكنني لم أرَ شيئاً". فهذا التعبير عن فقدان التركيز، أو فقدان الأمل، أو الرؤية الواضحة للحياة، يُظهر تساؤلات عميقة عمّن يتحكم بحياته ومن يصنع هويته. "رأيت لافتة نحاسية عليها اسمي"؛ هي علامة على الثبات، أو الموت الرمزي، أو الإدراك المفاجئ لهويته المفروضة.
فالحياة المليئة بالضغط النفسي والاجتماعي تجعلنا نعاني من انفصال عميق عن ذاتنا الحقيقية، ونشعر بالغربة والقلق المستمر. فبرانديللو يقدم لنا سردية تنتمي إلى أدب الاغتراب النفسي، حيث تتشابك فيه مشاعر القلق والانفصال عن الذات في خضم الحياة اليومية المحمّلة بالواجبات الاجتماعية والمهنية. فالقاص يصور شخصاً غريباً عن نفسه، يعيش حياة ليست حياته، ويؤدي أدواراً اجتماعية باردة تبتعد عن روحه الحقيقية. جملة "لم أكن ذلك الرجل أبداً" تتكرر كصرخة داخلية، تعبير عن شقاق نفسي بين من هو عليه وبين من يُطلب منه أن يكونه.هذا التوتر يتقاطع مع مفهوم "الآخر" الذي فرض عليه نمطاً معيناً من الحياة، كان عليه الامتثال له دون قدرة على التمرّد أو التحرر. فهل هذا نوع من الاغتراب لا يمكن ستره؟
منذ البداية، يُدخلنا برانديللو إلى عقل رجل يؤدي دوره في الحياة بدقة قوية ضمن قائمة طويلة من الواجبات والتزامات الحياة. الزوج، المحامي، الأستاذ، المواطن. كلها أدوار اجتماعية تضع على كاهل القاص ثقلاً نفسياً هائلاً، وبتصاعد درامي من الاعترافات البسيطة حتى الذروة النفسية التي تنكشف فيها أزمة نفسية عميقة.كما أن برانديللو صبغ التمرّد برمزية قوية؛ فالكلبة تمثل الآخر الصامت الذي لا يحكم ولكنه يشهد، والذي يتحمل نزوات الإنسان واختلالاته. فدفع الكلبة من قوائمها الأمامية كما لو كانت عربة هو تجسيد لحالة تمرّد عبثية مؤقتة، رغبة في كسر الروتين والوقار، دون أن تؤذي أحداً، لكنها ذات دلالة خطرة ومثيرة للقلق.
لكن الأكثر رعباً أن الكلبة تفهمه، وتحدق فيه بعينين غائرتين من الرعب. هنا يتجلى الضمير الصامت، الذي لا يدين الراوي، بل يكشفه. فالكلبة تتحول إلى مرآة داخلية، ترصد الجنون الصامت، لا لتعاقب عليه، بل لتُخيف منه. فالراوي يعيش حالة "تشيّؤ للذات"، يشعر أنه فقد جوهره الإنساني، وصار أداة لإنجاز الواجبات التي لا يؤمن بها، ويهرب للحظة عبثية كل يوم يُفرغ فيها شيئاً من جنونه المكبوت.
وقد تكون الكلبة رمزاً للجزء الباقي من إنسانيته، الكائن الوحيد الذي لا يطالبه بشيء، لكنه رغم ذلك أصبح يخافه. فهل الحياة التي تُعاش داخل أدوار اجتماعية صارمة، دون أن تُعبّر عن جوهر الذات، هي حياة ميتة؟ أم أن من يرى حياته بوضوح كصورة خارجية، لا يمكن أن يعيشها حقاً، لأن الوعي الزائد بالحياة هو إعلان للموت؟
يقدم برانديللو تحليلاً داخلياً لحالة الانفصال الذاتية. فاللافتة النحاسية على باب منزله، التي تحمل اسمه وألقابه العلمية، تصبح مرآة عاكسة للسجن الذي وُضع فيه. إن المجتمع لا يعترف بالجوهر الإنساني، بل فقط بـ"الوظيفة الاجتماعية" التي يؤديها الفرد. "ذلك الرجل الذي يحترمه الجميع.. لست أنا". فهذا التوتر بين الظاهر والحقيقي لا يُحل بالنقاش، بل يتفجر في لحظة عبثية سريالية تماماً.
فقد يصنع المجتمع قوالب ناجحة، ولكنها تخنق النفس وتقتل الإبداع والحرية والحقيقة. فالتمرّد قصة عن رجل يغرق في دور ليس له، وعن انهيار داخلي بطيء يعيشه شخص ناجح في الظاهر، لكنه ميت من الداخل، لأنها تجعل القارئ يتساءل. هل أنا أيضاً أعيش حياة ليست حياتي؟
قصة ذات رؤية سوداوية للحياة بوصفها موتاً متكرراً في أدوار ثابتة. فـ"من يرى حياته لا يعيشها"، كما يقول الراوي. ومن يصل إلى "الصورة النهائية" التي يريدها المجتمع منه، يدخل في الموت الرمزي. لا حياة في التقدير الاجتماعي، في الألقاب، في النجاح، إن لم يكن وراءها تجربة ذاتية حقيقية.
هذه الرؤية تتقاطع بوضوح مع الفلسفة الوجودية، كما عبّر عنها جان بول سارتر وألبير كامو. فالحياة ليست ما يُمنح، بل ما يُصنع. والحرية ليست في الأدوار، بل في التمرّد على معناها المفروض. وهذا لا يخلو من أبعاد سيكولوجية واضحة: اضطراب، نوبات من الدهشة المرضية، اكتئاب وجودي، وهوس بالاحتفاظ بالسر.
فالراوي يخشى انكشاف لحظته الصغيرة التي تمثل له النجاة الوحيدة، ويخاف أن يُفسر سلوكه "البسيط" على أنه جنون، فيُؤخذ إلى مصحّ عقلي. فالمجتمع الذي خلق هذا القالب، هو نفسه الذي سيعاقب من يحاول كسره. التمرّد قصة فريدة عن مأساة الإنسان المعاصر، الممزق بين ما هو عليه فعلاً وما يُنتظر منه أن يكونه. هي صرخة في وجه الحياة المعلّبة، والانضباط القاتل، والتقدير الاجتماعي الذي يُخفي تحت أقنعته نفوساً ميتة تمشي على قدمين.
وفي لحظة شاذة، عبثية، يكسر الراوي رتابة هذا العالم بفعل يبدو تافهاً: دفع كلبة كعربة. لكنه يحمل بين ثناياه أشد الصرخات صدقاً وألماً. والخوف من "أن يقتادوني إلى مستشفى المجانين" يدل على قلق من فقدان السيطرة على العقل، وهو قلق شائع عند الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية عميقة أو حالات ذهنية غير مستقرة.أنا لست هذا الرجل." "لم أعش أبداً." "هذا القلب ليس لي." هذا هو التمرّد الأكثر خطورة: عندما يبدأ الإنسان في الانفصال عن ذاته "الاجتماعية"، ويحاول استعادة ذاته "الحقيقية"، حتى إن كان ذلك في الخفاء، عبر فعل عبثي بسيط.
فهل التمرّد هو رفض القوالب المفروضة اجتماعياً على الإنسان؟ وهل نحن الآن في عصر فيه "حرية شكلية" واختيار مقيّد؟ وهل نعيش الاحتراق النفسي دون أن نشعر؟ وهل هذه القصة توازي تماماً حالة جيل يعيش في عالم سريع، ضاغط، يحاسبك على الصورة لا على الحقيقة؟
لويجي برانديللو والتمرّد الجنوني كمهرب من الحياة المعلبة

نشر في: 13 أغسطس, 2025: 12:01 ص









