د. نادية هناوي
تسعى المؤسسات والجامعات ومراكز البحث المعنية بقضايا النقد الأدبي إلى إحراز مكانة معرفية رفيعة على المستوى العالمي من خلال تأسيس مدرسة أو انتهاج مسلك علمي خاص أو بناء منظومة مختلفة، تدلل من خلالها تلك المؤسسات على ما لها من باعٍ وإنجازٍ من جانب، وتؤكد من جانب آخر ما للأدب الذي تنتمي إليه من إرث عريق وهوية مخصوصة. وهو ما نجده شاخصًا في مساعي المؤسسات الأكاديمية الصينية في مجال السرديات ما بعد الكلاسيكية.
فلقد تمكنت هذه المؤسسات خلال خمسة وعشرين عاما تقريبا من بناء سرديات خاصة بها، تعكس الجهود المعرفية التي بذلتها الأوساط البحثية في مجالين رئيسين: الأول هو الدراسات السردية والأبحاث التي تم إجراؤها ضمن حاضنة النقد الفرنسي خاصة وفي إطار ما قدمته السرديات الغربية عامة. والمجال الآخر هو التنظير للسرديات التي تتخذ من ‹علم السرد الصيني› حاضنًا وموضوعًا. وكان للباحث "بيو شانغ" وآخرين دور مهم ورئيس في بلورة هذا العلم.
وكنت قد عرَّفت ببعض جهود شانغ في مقالتي(جهود صينية في إثراء النظرية السردية العابرة للحدود: بيو شانغ وفكرة العناصر في السرد غير الطبيعي) المنشورة في جريدة الشرق الأوسط عام 2021، وفيها أكدت أنَّ شانغ واحد من نقاد السرديات الصينية، وأن له مشروعه الخاص في السرد غير الطبيعي بكتابه الموسوم(السرد غير الطبيعي عبر الحدود: منظورات مقارنة عابرة للوطنية). ولقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية بعد بضع سنوات من نشر مقالتي. والمهم هو أنَّ هدفي من وراء نشر المقالة وسلسلة المقالات اللاحقة في الموضوع عينه كان محددا في التشجيع على أن تكون لنا في مجال نقد السرد العربي مساعٍ مماثلة في بناء علم للسرد خاص بنا، يُشابه مساعي الصينيين في هذا المجال.
غير أن بعض الأوساط الأكاديمية العربية تلقت الموضوع من زاوية أخرى مختلفة تماما، تتمثل في السعي نحو مقارنة الجهود الصينية بالجهود الفرنسية او الانجليزية. وكأن ثمة خشية من أن تكون للنقد الصيني نافذة على النقد العربي، تحرفه عن خطه الاتباعي في دراسة السرديات. وما من شك في أن وراء هذه الخشية رغبة في إبقاء الحال على ما هو عليه من أجل أن تظل شماعة أزمة النقد العربي جاهزة لنعلق عليها قصورنا وأخطاءنا. وما من غرابة في أن يكون نقاد أكاديميون معروفون بارعين جدا في إدامة وجود هذه الشماعة.
إنَّ مناسبة الحديث عن هذا الوضع المرير الذي نشخِّصه في نقدنا العربي الراهن عامة ونقد السرديات العربية خاصة، تأتي من زاوية ما حققه "بيو شانغ" للمنظومة النقدية في الصين من تقدم وصعود على المستويين المحلي والعالمي. فلقد بذل خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة جهودا تعادل أضعاف ما بذله مواطنوه من جهود نقدية في العقود السابقة من أمثال شيو يان فو وويشنج تانج ودان شين. وبسبب انجازات بيو شانغ المعرفية، صار اسمه حاضرا عند أي حديث عن السرد والسرديات ما بعد الكلاسيكية. وهو يحتل اليوم موقعا شاخصا في خريطة هذه السرديات، حتى لا يستطيع أي باحث تجاوز مشروعه أو تجاهل أعماله.
وما يجذب انتباه الأوساط الأكاديمية الدولية إلى أبحاث بيو شانغ، يتمثل في ما قدمه في مجال السرد غير الطبيعي من أفكار وتصورات، لم ترتكن إلى نظريات السرديات الغربية إلا من أجل أن تبني لعلم السرد الصيني معمارا خاصا نابعا مما للأدب الصيني من عمق تاريخي وحضاري معا.
وليس هذا التوجه بالجديد على الصينيين، إذ تكشف نظرة مقرَّبة أنَّ منشأ هذا التوجه في بناء معمار نقدي مخصوص وجامع كان قد بدأ في نهاية سبعينيات القرن العشرين. وهو زمن متأخر نسبيا عما كان النقد العربي وقتذاك قد أنجزه من دراسات مهمة في السرد العربي القديم نذكر منها مثلا لا حصرا دراسة الدكتور حسين الواد للبنية القصصية في رسالة الغفران فضلا عن الدراسات في السرد القصصي والروائي العربي الحديث. ولكن الغالب على النقدين الصيني والعربي في تلك المرحلة تبعيتهما للمدرسة الفرنسية التي بلغت في ستينيات القرن العشرين شأوا كبيرا بنظرياتها وأعلامها المفكرين.
وإذ سعى النقاد الصينيون بدءا من عام 1983 إلى التخلص من هذه التبعية، فإن نقادنا في الثمانينيات سعوا بشكل أكبر نحو التبعية للمدرسة الفرنسية. وكانوا حريصين على تلقف منجزاتها العلمية في نقد السرديات. وسعى قسم معين منهم إلى التخصص في تطبيق مفهوم من المفاهيم على نصوص السرد العربي القديم منه والحديث. والسؤال المهم هنا هو: كيف تمكن النقاد الصينيون من التخلص من شرك التبعية للمدرسة الفرنسية؟
الإجابة محددة وواضحة، وهي أن التخلص تم بالتدريج على مدى ربع قرن تقريبا. هذا ما يؤكده الباحثان جون وو تيان وشو يوي ليو في دراستهما(التطورات الجديدة في دراسات السرديات الصينية). وفيها يذهبان إلى أن الناقد الصيني لونجشي تشانج هو أول من ابتدأ السير على المنهج البنيوي في نقد السرد. وكان حريصًا على تبسيط المبادئ والمعايير الأساسية في دراسة الظواهر الثقافية المعقدة والواسعة. وأدرك مبكرًا أن هذا النهج يتجاهل القيم الجمالية للسياق الثقافي والبعد التاريخي للنصوص المدروسة بنيويا.
ولم يكن هذا التشخيص عابرا، بل كان مدشنا لاتجاهات ستصبح تكميلية في تطبيق المفاهيم البنيوية المستوردة من الغرب. وهو ما عملت الأوساط الأكاديمية في الصين على السير فيه، فشرح تشيلين دونج عام 1998 مخاوف تشانج إزاء البنيوية الفرنسية. وأعطى مثالا من داخل المنظومة الغربية لناقد يشكك بالسرديات البنيوية هو فريدريك جيمسون. وحذر دونج من أن(يقتصر بناء السرديات على نطاق نقد النص وحده، وأنه إذا ذهب إلى أقصى الحدود في هذا المجال، فإن النقد سيصبح مجرد لعبة تخمين للنصوص كما سيقلل من قدرات النقاد على تجاوز الحدود النصية إلى المعطى الواقعي. وبعد سنوات من هذا النوع من الدراسات، وبسبب قيود السرديات الكلاسيكية البنيوية، تقدم نظيرها وهو السرديات ما بعد الكلاسيكية التي أخذت بدءًا من مطلع الألفية الثالثة تجذب اهتمام النقاد الصينيين من ناحية الصلة بين الخصائص الشكلية للنصوص وخلفياتها الاجتماعية والتاريخية. ومنذ ذلك الحين، لم يدخر العلماء الصينيون أي جهد لإصلاح السرديات الغربية وبناء مدرسة "محلية" بإنجازات مهمة وضمن سياق صيني بحت. ما أدى إلى تطوير نظريات سردية تفتح آفاقًا جديدة لأشكال من التفكير السردي، لم يعرفها النقد الغربي.) ووفقا لما تقدم، قسَّم الباحثان "تيان" و"ليو" المراحل التي مرتْ بها المساعي الصينية في نقد السرديات إلى ثلاث:
- المرحلة الأولى تمتد من عام 1979 إلى أواخر التسعينيات، وفيها شهدت السرديات توسعًا في نطاق دراسة المقدمات والترجمات لعلم السرد الكلاسيكي.
- المرحلة الثانية، تمتد من نهاية التسعينيات إلى مفتتح القرن الحادي والعشرين، وفيها بدأ التحدي لهيمنة علم السرد الكلاسيكي في الصين من خلال صعود نظيره ما بعد الكلاسيكي.
- المرحلة الثالثة تمتد من مفتتح القرن الحالي حتى هذا العقد وفيه نشطت السرديات في الصين باتجاه النقد الشامل للنظريات الأجنبية بغية بناء تأسيس أولي لمدرسة صينية في السرديات.
ولا شك في أن لمثل هذه المساعي، ما يناظرها في توجهاتنا النقدية والأكاديمية لكنها توجهات فردية، بسبب طغيان التوجه الجمعي للنقد العربي نحو ملاحقة مستجدات المدرسة الفرنسية حينا، والانبهار منقطع النظير بالدراسات الثقافية حينا آخر.
ان إعادة فحص منظومة نقدنا العربي هو ما نحتاجه في راهننا الحاضر، بغية تطوير قابلياتنا أولًا، وبلوغ رؤى فكرية جديدة ثانيًا، نكيِّف من خلالها النقد الأدبي باتجاه وضع نظريات يمكن تطبيقها على سياقات ثقافية مختلفة ثالثًا، والمساهمة في نهاية المطاف في بناء علم للسرد (عربي) يساعد بشكل أكثر دقة وشمولية في التعامل مع المرويات والروايات والقصص بوصفها مادة لعلم جديد وتخصص عالمي.
وبهذا الشكل لا تغدو السرديات مجرد ثيمة من الثيمات، يضعها من يشاء في أي سياق وكيفما اتفق. ولعل أكثر المخاطر التي تحدق بنقدنا العربي تتمثل في الإنشائية والمجانية في التعاطي مع مفردات(السرد والسردية والسرديات) بعيدا عن العلمية، ومن دون التزود بأية أدوات أو أجهزة اصطلاحية.
هل يكون لنا ما للصين من علمٍ سرديٍّ؟!

نشر في: 17 أغسطس, 2025: 12:03 ص









