طالب عبد العزيز
أريدُ لذكرايَ أنْ تكون عطرةً بذكر الاهلِ والأصدقاء، مثلما أريدُ للسانيَ أنْ يظلَّ رطباً بذكر من أحبُّهم وأشتاقهم، وأحبُّ أنْ أوصف بالمُحبِّ للحياة، الكاره لما ينغّصها، ومَنْ يكدّرها، ذلك لأنني أعلم بأنَّها جديرةٌ بأنْ تعاش، حتى ليبدو الموتُ متناً عارضاً، لا قيمة له. أمس كنتُ قد نشرتُ على صفحتي جزءًا من قصيدة لي، كان الموتُ غالباً في سلَّمها الشعري، وهذا ما لم التفت اليه مع الأسف، تفلتُ من بين أصابعنا كلمات، هي ما لا يخصنا أحياناً. في اللحظة التي أكتب فيها القطعة الصغيرة هذه، كنتُ قد خرجتُ للتوِّ من مستحم البيت، منتشياً بماء الحنفية الحلو، المأخوذ من نهر البدعة، ظلَّ تصببُ على رأسي طويلاً، حتى تشبعتْ به آمادُ جسدي البعيدات. هناك لحظات استثنائية قد لا نتحسسها ونحن بين يدي الماء، تحت عطف الآلة المثقبة، التي صنعت لتنثر حباتها علينا، مثل رذاذ من عطر، لم يوصف عند النساء.
حدث مرةً أنْ كتبتُ؛ وعلى لسان امرأةٍ عاشقة؛ قصيدة بعنوان(على أريكة من شجن) نُشرتْ في كتابي الأول؛ تقول المرأة لحبيبها: "أوّلُ طيبي أنت وآخرُ طيبي الماء.."إذْ معلوم أنَّ نساء العرب كنَّ يتطيبنَّ بالماء، هذا الذي نزهد به أحياناً. اِعتدتُّ قبل أن أجلس على طاولة الكتابة، وبعد خروجي من المستحم ذاك، صباحَ كلِّ يوم؛ أنْ أتطيبَ بالعطر الذي صار قريناً، عطري الذي أحبّه(Jacomo)هذا الساحر جاكومو دي جاكومو اِنْ بلاك، أو دو تواليت للرجال 100 مل، المقطَّر من خليط حَبِّ الهال والليمون والنعناع، وقلب عطر الارز، وبخور مريم، ومن الخزامى، وزنبق الوادي، وقاعدة عطر العنبر، وخشب العنبر، واللبان، وفول التونكا، والفانيليا، والموصوف بأنَّه "تجسيدٌ للذكورة والأناقة". يبدأ بنفحات منعشة وحيوية، ثم يتطور إلى قلب توابلي وزَهري، وينتهي بقاعدة دافئة وغنية. إنه عطر مثالي للرجل الذي يبحث عن رائحة تجمع بين النقاء والدفء.
تعود علاقتي بجاكومو الى أيام الصِّبا الأولى، فقد كان عطرَ أخي الأكبر، أخي لأمّي، بسبعينات القرن الماضي، وكانت أمّي قد احتفظت بإحدى الزجاجات الفارغة في درجٍ بكنتورها، لم تمسسه يدُ النقل والتخلص من الأشياء، ثم أنني عثرتُ على الزجاجة السوداء تلك، بمحكوم قفلها، ومحجوب النور عنها، لكنني حين فتحتها تضوَّع منها عطرُها، كأن لا أحد فضَّ فاها، ذاك الهواء الذي كنتُ أتنفسه في يدِ وثياب أخي، ولخشيتي على نفاده، أسرعتُ فأعدتُ السدادة عليها، ولم أعد لها ثانيةً، وهكذا، ظلَّ عطرها يأتيني برائحة أخي وأمّي كلما شاقتني ذكراهما.
ولأنه يخصّني أكثر فقد ذهبت الى السيد كوجل أسأله أشياء عنه فقال لي: العطر جاكومو يعود بأصله الى أواخر العام 1960 وهو بيت أزياء، يمتلك ثمانية وعشرين عطراً في الموسوعة الضخمة، التي تم اطلاق اِصدارها الأول عام 1971،لكنَّ أصدارهم الأحدث كان في العام 2016 حيث صدرت عطور جاكومو بالتعاون عِطريين فرنسيين أمثال هنري بيرجيا، وادوارد فليشير، وكريستيان ماثيو، وبيرنارد الينا، وماري اود كوتور بلاش، وماثيلدي بوجوي، ودانيل مولير، وكريستين ناجل، وجيرارد جوبي، وجان كلود نيل وسيرج ماجولير. ثم أنهم أطلقوا العطر الانثوي منه بعبير قبرصي زهريٍّ في العام 2019. الذي هو مزيج عِطري ساحر، مكلل بالإنتعاش والحيوبة، تفتتحه قمّةٌ عِطريةٌ مثيرةٌ، مع الليمون، والصفير والبرغموت، ويتبعها قلبٌ عِطريٌّ مثير مع زنبق الوادي، وتختمها قاعدة التكوين مع المسك، والعنبر، والباتشولي، ورقيب الشمس، وخشب الصندل، وبمجمله فهو فوضى من الجمال والاناقة، يرجع في صلبه وأسلافه الى العائلة الشرقية الخشبية، الخاصة بالرجال.
يا سلام، هذه المفردات تثري معجمي قلتُ:" تفتتحُ قمته العِطرية برفقة البرغموت، والريحان، وأوراق وأغصان شجر البرتقال المُرّ، واللافندر، واكليل الجبل، وحب الهال، واللبان، والليمون والبردقوش، برفقة خشب الارز، والقرفة، وزهرة جوز الطيب، وخشب الصندل، والكزبرة، والكراويا، والقرنفل الغرنوقي، وخشب الورد البرازيلي، وتدخل الفانيلا قاعدته العطرية أيضاً، مع المسك، وطحلب السنديان، والجلد، والبتشول.." أمّا إصدار العام 2012 فقد كان من العائلة الزهرية الخضراء الخاصة بالنساء، JACOMO LE PARFUM أو جاكومو فور هير، التي تُفتتحُ القمّة العطرية منه برفقة الكمثرى، والقرفة الصينية، والألدهيدات واللبان، ويليها القلبُ العطريُّ، برفقة الورد، ومشفوعاً بزنبق الوادي، والنرجس والسوسن.ثم أنَّه يختتم قاعدته بروح الخشب الصندل، ونجيل الهند، والمسك وزبدة الشرق السوداء.
حين دخلتُ سوق العطر؛ في أوّل رحلة لي الى بلدان الخليج العربي تبضعت واحدةً، لكن، لم تكن تشبه زجاجة عطر اخي التي احتفظت بها أمّي، كانت الطبعة الحديثة منها للشركة، وليست بالسدادة السوداء، التي تدار باليد ثلاث مرات ثم تستجيب، هي تعمل بالضغط عليها، فيتطاير رذاذٌ طيبٌ،وزكيٌّ، لكنْ بدا لي أنْ لا صلة له بالعطر الذي يذكرني بالصِّبا والفتوة، ويجيئني بذكرى أمّي وأخي. العطر ذاكرة ثانية إذن.










