د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
في رصدي للمشهد المعماري العراقي لمست بان <الجيل الثاني> من المعماريين العراقيين - الجيل الاول هم رواد العمارة الذين تأهلوا اكاديمياً ومهنياً في منتصف الثلاثينيات وبدء الاربعينات – لمست بان ذلك "الجيل الثاني" ومعماريه الذين ارتبطت اعمالهم واسماؤهم بتكريس وتوسيع أنماط الحداثة المعمارية بالمشهد المعماري المحلي، صنعوا من انفسهم "أساتذة" و "مرشدين" وحتى.. "مراجع" للجميع، جاعلين من الآخرين مجرد "توابع" ومريديين لهم ولمقارباتهم الاسلوبية. وقد افضت تلك الحالة، كما أشرت يوماً: ".. الى "تغييب" اسماء عديدة من المعماريين الشباب، طمحت لأن يكون لها مكان معين في المنتج المعماري العراقي، بعيدا عن "وهج" اسماء الجيل الثاني و"بريقها"! ومن المحتمل، إن بعض تلك الاسماء الشبابية، وَعَت حقيقة بان "اللعب" خارج ساحة الحداثة، يمكن ان يحدّ من تأثير إحتكار ونفوذ "سلطة" الاسماء المعروفة في المشهد المعماري. ذلك لإن إستدراجها الى منافسة، لا "تعرف"، هي، إشتراطاتها وقيمها، سيضعها في مكان، هو في الواقع، خارج "مكانها"، وبالتالي سيحرمها من امتيازات "حصانة" الريادة التى تشبثت بها طويلا." وبالتالي تسهم تلك الممارسة التصميمية الجديدة وغير المألوفة بالنسبة الى معماريي الجيل الثاني الى لفت الانتباه الى اولئك المصمميين الشباب "المتمردين" والاشادة بهم وبمنجزهم المعماري المختلف. بيد ان <معماريين آخرين> تائقين، أيضاً، وراء مسعى تكريس اسمائهم الشخصية الجديدة ومتطلعين للحصول على اعتراف بمنجزهم الابداعي، وجدوا في محاولة البحث عن "مكان" آخر ونائي خارج "حدود" الجغرافية المحلية حلاً، قد يكون مؤاتياً، لجهة "فك الاشتباك" مع ذات الاشكالية المهنية (المعبّر عنها في سطوة وهيمنة الجيل الثاني). رغم معرفتهم التامة باحتمال مواجهة مشاكل صعبة وشائكة قد تصادفهم مستقبلا تكون موجعة ومؤلمة جراء الركون لمثل هذا الحل. وقد يكون قرار المعمار العراقي "مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ" (1948) الذي اتخذه للعمل والانتقال الى الامارات المتحدة سنة 1976بعد تخرجه من القسم المعماري بجامعة بغداد، تمثيلاً لتلك الفئة "المغامرة" من المعماريين التى وجدت في "الهجرة" وسيلة ومجالاً لتحقيق آمالها.
عندما شرع المعمار "مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ" في تأسيس مكتب له في الامارات، عام 1976 مع المهندس الانكليزي "جون وغيمور" John Wigmore، (الذي تعرف عليه اثناء عمله في العراق) باسم مكتب " وغيمور والاعسم مشاركون"؛ كان ذلك بمثابة مجازفة غير مضمونة النتائج. صحيح ان المكان كان، وقتذاك، واعدا ومبشراً باعمال متنوعة، لكن البداية التى شرع بها اَلْأَعْسَمْ مع شريكه كانت غير عادية وغريبة نوعا ما، بل ويمكن القول، بانها اتسمت بعدم الخبرة والتجربة. اذ لم يكن "المكتب" اياه يحظى، اولاً، بمساندة مؤثرة من قبل اية جهة داعمة او فعالة، كما هي العادة لدى افتتاح مكاتب من هذا النوع، بحيث يوفر ذلك الدعم والاسناد مكانة مهنية له، في خضم منافسة شرسة "يتباري" بالعادة فيها كثر من المكاتب والمؤسسات الطامحة لتكريس موقعها في المشهد المهني. كما ان الدعم المالي للمكتب الذي يستلزم ان يكون وفيرا كان شبه معدوم ان لم يكن غير متحقق بالمرة؛ ما استوجب ان يكون "كادر" العمل مقننا الى ادنى حد، مؤلفا من رسام واحد يعمل بنصف دوام وسكرتير اداري يعمل بنصف دوام ايضاً. وكما كان منتظرا فان مسيرة المكتب اصطدمت بمشاكل متنوعة عديدة، منها قرار الشريك الانكليزي ترك العمل في الامارات نهائيا والرحيل الى انكلترة، ما اضطر مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ السفر الى الكويت للعمل هناك لفترة قصيرة من الزمن. وبرجوعه الى الامارات، مرة اخرى، اسس مكتبا باسم "ديوان معماريون ومهندسون"، في ابوظبي عام 1984.
لقد استطاع المعمار مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ النهوض بمستوى مكتبه المتواضع في البدء وينقله لاحقاُ الى مستويات احدى اعلى المراتب العالمية في حقل الاختصاص، محققاً بذلك "مأثرة إعجازية"؛ ومبيناً للجميع عنما يمكن ان ينجزه العمل المثابر والكفوء والمخلص والنزيه من مآثر مهنية ملموسة. وما يمكن ان بجترحه، في الوقت نفسه، الايمان والتواضع والثقة بزملاء العمل والاعتماد عليهم واحترام مهنيتهم لجهة تكريس النجاحات والاعلاء من شأنها، والرفع من خاصية "العمل الجماعي" ليكون عنوانا لكل منتسبي " مَكْتَب دِيوَانٍ" وفخرا شخصيا لهم جميعاُ. وبتحقيق وبلوغ تلك المرتبة العالمية الرفيعة (وفقا لبعض المصادر المهنية الرصينة < ENR من ضمنها>، فان المكتب شغل مرتبة 93 من مجموع 225 من الشركات العالمية الاكثر ابتكارا عام 2024)؛ فان ادارة " مَكْتَب دِيوَانٍ" أظهرت بوضوح أهمية المكتب وجدارته المهنية، وما يمكن ان يكون نموذجاً ملهما للكثير من الشباب المعماريين الطامحين لتكريس اسمائهم في المشهد المهني وخطابه! واأَخَالَ بان المعمار "مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ" وهو ينظر، الآن، الى انجازات المكتب الذي اسسه في منتصف الثمانينيات، ويعمل فيه الآن حوالي 800 منتسب، وما أنجزه (..وما ينجزه) من مشاريع ممتدة على جغرافية واسعة تشمل الامارات والعراق والسعودية وافريقيا وجنوب شرق آسيا؛ وما حققه من مراتب متقدمة ضمن ترتيب المكاتب العالمية، أَخَالَه يشعر بفخر ممزوج ببهجة عميقة، لما بلغه مكتبه من شأن مهني رفيع،. كما أَخَالَه راضٍ ومقتنع لديمومة المكتب واستمراره المثمر وبمساهمة ادارته التنفيذية الشابة المتمثلة بولديه: <عمار> و <حيدر> وحرصهما الكبير لسبر غمار آفاق مهنية جريئة في العمل الاستشاري وايجاد اسواق وعملاء جدد وتوظيف وتدريب المواهب الشابة وتوسيع نطاق الخدمات والاستثمار في التقنيات الناشئة.
ولد "مُحَمَّدْ شَاكِرْ حَسَنْ اَلْأَعْسَمْ" في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد/ العراق عام 1948، تخرج من القسم المعماري بكلية الهندسة / جامعة بغداد عام 1971، وعمل بعد تخرجه في احدى المؤسسات المهنية التابعة لاحدى الوزارات العراقية، اضافة الى عمله الجزئي لدى مكتب "مهدي الحسني" ببغداد. صمم بعض المشاريع السكنية ابان تلك الفترة قبل ان بغادر الى العراق الى الامارات ليؤسس مكتبا له في "رأس الخيمة"عام 1976 مع مهندس انكليزي. عمل لفترة قصيرة في بدء الثمانينيات بالكويت. اسس مع زملاء له مكتب "ديوان معماريون + مهندسون" في ابو ظبي عام 1984. قام بتصميم مشاريع عديدة في مكتبه ذات مواضيع مختلفة: اسكانية وعامة وتخطيطية ودراسات جدوى، ونال على بعضها جوائز مهنية متنوعة. ومن ضمن تلك التصاميم صمم المكتب"برج بانياس" في ابو ظبي 1988، وصمم "فندق الجزيرة" في ابو ظبي (1990)، ومجمع تجاري "مول ابن بطوطة" في دبي (2005 -6)، وفندق "فيرمونت" في ابو ظبي (2009)، وكذلك "فندق بريمير ان" في الدوحة (2017) كما صمم مركز تسوق دبي وابراج في وسط دبي (2020)، وصمم ايضا "مسجد استانا الكبير" في استانا / كازاخستان (2022). كما قدم لبلده العراق عدة مشاريع عمرانية ومعمارية، منها مدينة النخيل بالبصرة ومخططات الى كربلاء والنجف والكاظمية. وفي عام 2017 اطلق مكتب ديوان وبالتعاون مع جائزة "تميز" <جائزة ديوان للعمارة> لتشجيع المصممين الشباب على تقديم حلول معمارية مبتكرة. وفي عام 2021 منحت جامعة "كوفنتري" Coventry University البريطانية المعمار "مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ" شهادة "الدكتوراه" الفخرية عام 2021، تقديرا لانجازاته لعقود عديدة في حقل العمل المعماري وتطوير البيئة المبنية بالامارات والعراق وفي منطقة الشرق الاوسط.
من ضمن المشاريع الرائدة والمتنوعة التى صممها مَكْتَب دِيوَانٍ للعراق، سأتوقف ملياً عند مشروع "قصر البصرة الثقافي" (2020) بالبصرة. انه مشروع ثقافي يتضمن احياز متعددة بلغت مساحتها حوالي 21 الف متر مربع، تخدم فعاليات ثقافية واجتماعية متنوعة تحتاجها البصرة كمركز ثقافي مهم سواء كان على المستوى المحلي او الاقليمي او العالمي. والمشروع اياه هو نتيجة فوز المكتب في مسابقة معمارية عالمية نظمت لهذا الغرض بالبصرة.
تنطوي كتلة المشروع على شكل هندسي متوازي الاضلاع منتظم. بيد ان هذا الشكل المعتاد والمألوف (..والرتيب ايضاً!)، يضحى في يد معمار " مَكْتَب دِيوَانٍ" المقتدر كتلةً مثيرةً، نابضة بدينامكية حيوية وزاخرة بنشاط فورماتي متنوع. ثمة سطوح مستوية مصمته ضخمة تمثل واجهات المبنى المصمم مبثوث عليها فتحات، كناية عن نوافذ، تجترح اشكالها المعينية الـ "موتيف" العام لصياغة الواجهات وتعمل على ايصال الضياء الطبيعي والتهوية الى فضاءات المبنى الداخلية. يوظف معمار المبنى عنصر "التضاد"، كأداة اساسية في معالجة واجهات مبناه، إذ ينزع الى نشر امكنة فتحات نوافذه بصورة بدت وكأنها غير نظامية، متوخياً بذلك إضفاء حس تشكيلي لاسطح واجهاته تمظهر في اسلوب عفوية كثافة وجود تلك النوافذ في الاطراف بمواجهة شحتها وندرتها في الوسط.
يبقى حدث وجود فجوة "الفصل الفضائي" في منتصف كتلة المشروع بمثابة "سيد" القرارات التكوينية في عمارة <قصر البصرة>. نحن ازاء تمرين تصميمي مثير يتوق المعمار لإن تكون خصوصية معالجته تلك ليست فقط متفردة ولافتة، وإنما يسعى ايضاً ومن خلال تلك المحاولة المبدعة الى اثراء جمالي مضاف لرموز مشهد البيئة المبنية التى ينهض فيها ذلك المبنى المتفرد! واذ يَعَيّ المصمم جيداً خاصية "عمومية" مبناه، فانه يدرك بان حضور تلك "الفجوة" بالصيغة التى اقترحها تعمل على تفادي تحديد منطقتي <الخارج> و<الداخل>. من هنا ارتأى تجنب وجود عوائق تفصل خارج المبنى عن داخله، ومن ثمة عدم تبنيه ضرورة استدعاء "مداخل" او بوابات لهذا الغرض. في حيز "فجوة الفصل الفضائي" الممتد على عمق المبنى وعلى ارتفاعه المتعدد الطوابق، يسعى المعمار وراء اعادة "تأثيث" فضاء حيزه باستخدام ممرات "المراقي" Ramps المتعددة والواصلة بين قسمي المبنى لجهة اضفاء مقياس انساني ملائم لتلك الفجوة الشاهقة والضخمة التى خلقها. فضلا على ان وجود تلك الممرات الافقية الرابطة تزيد، اولا، من الاحساس بانتمائية قسمي المشروع الى مبنى واحد، كما تعمل كنقاط نظر ورؤى متنوعة لمشاهد الفضاء المحيط ثانياً. يثير تبني قرار فتح فجوة "الفصل الفضائي" في مبنى البصرة اِسْتِدْعَاءَات فكرة <فتحة> "قوس" مدخل جامعة بغداد. ولئن اجرى، هنا، معمار البصرة "تناصاً" Intertextuality مبدعا مع مأثرة معمار الجامعة البغدادية، فأنه يطمح ان يستعير مفهوم ذلك "الفتح" الجرئ وغير المتوقع ليكون صداه حاضراً بقوة في "سردية" مبناه البصراوي!
والامر المحزن والمؤلم في <حكاية> مبنى "قصر البصرة الثقافي" يظل، كما ارى، في ان قرار تنفيذه خضع لاجراءات روتينية بطيئة حالت دون ان يشيد في وقته. ونأمل في الاخير بان حكمة المسؤولين وحصافة قراراهم تعجل بانجاز هذا المعلم المتميز؛ الذي سيضحى، من دون ريب في حال تنفيذه، اضافة لافتة الى البيئة المبنية البصراوية. ومثلما يتطلع المعمار"مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ"بان مبناه سينفذ يوماً ما، فأننا نأمل (.. كما يأمل المعمار أيضاً) بان ذلك اليوم لَيْس بِبَعِيْد"!
لطالما سمعنا كلاماً يردده، وبفخر، مؤسس المكتب ومديره التنفيذي، بان ميزة العمل في دِيوَانٌ هو "العمل الجماعي" الذي يرتقي ليكون <شارة> المكتب و<بصمته> المميزة! لقد مرّ على مكتب "ديوان" العديد من المعماريين والمصممين الاكفاء. وجميعهم اجتهدوا وقدموا الكثير للمكتب ولنتاجه التصميمي. وقد ترك قسم منهم العمل في "دِيوَانٌ"، وبقى قسم آخر يعمل في فضائه المهني. بيد انهم سعوا جميعا وراء ترسيخ صيت المكتب وسمعته في الوسط الاستشاري. وبهذة المناسبة اود ان اشير الى الجهد المميز والعمل المبدع اللذين بذلهما المعمار "مهند الاعسم" (1955) <شقيق مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ > في إثراء ذخيرة "مَكْتَب دِيوَانٍ" ومنجزه التصميمي. ورغم ترك مهند، لاحقاً، مكتب ديوان وتأسيسه مكتب خاص به مع اخرين باسم <بيد> BEAD، الا ان إجتهاده المميز ومهنيته الحاذقة العالية والكفوءة ساهمت مع آخرين في تكريس وحضور موقع < دِيوَانٌ> في الفضاء الهندسي الاستشاري. ولئن اصطفيت اسم <مهند> من ضمن آخرين بمكتب دِيوَانٌ، فما هذا الا نوع من "إعتزاز" شخصي اكنه لمهند، هو الذي كان يوما ما طالباً ومستمعاً لدرسي التعليمي في السبعينيات بقسم العمارة في بغداد، هو وزوجته "ياسمين": ابنة <فيصل السامر>: احد التنوريّين العراقيين المهميين!
ادناه بعض اقوال المعمار "مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ" التى نجد فيها انعكاس لرواه ولافكاره وتمنياته فيما يخص العمارة و التصميم.
-" العمل الجاد والعزيمة والتصميم والتخطيط هي جوهر نجاحنا"
- " كان مكتبنا الأول عبارة عن كابينة متنقلة على حافة الصحراء - وكان من الطبيعي أن تتجول الجمال بقربنا، وهو أمر يثير الضحك عندما اتذكره الان!".
- "التصميم الجيد هو ما يسر العين، ويبهج القلب وما ينفع الناس"
- "أن أعظم نقاط قوتنا في < ديوان>، تكمن في قدرتنا على العمل بسلاسة كفريق واحد عبر البلدان. وتحويل رؤى عملائنا إلى مبانٍ ومساحات بارزة ناجحة ومبتكرة وعالية الأداء والتي يمكن لها ان تؤثر بعمق على البيئة المبنية لمدنهم"
- "يمكنني القول بان معظم النجاحات التى حققها مكتب ديوان وحقتتها شخصيا في العالم، لا تعادل باهميتها بالنسية اليّ اي مشروع (حتى لو كان صغيراً)، انجزه في وطني العراق!"
- " اتمنى ان اكتب كتاباً اتناول به تجربتي الاستشارية الشخصية التى مارستها خلال خمسة عقود، وتأملاتي في مستقبل المهنة المعمارية".
" اسعى مع زملاء آخرين وراء تقصي حلولاً عمرانية ناجعة، نابعة بالاساس من محددات البيئة المحيطة بنا ومن خصوصية مدننا التى نعيش فيها".
عام"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ " اَلْآخَرِ: تَصْمِيمًا وَتَعبِيرًا > "مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ"
"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ " اَلْآخَرِ: تَصْمِيمًا وَتَعبِيرًا > "مُحَمَّدْ اَلْأَعْسَمْ"

نشر في: 18 أغسطس, 2025: 12:02 ص









