بغداد/ تبارك عبد المجيد
يشهد العراق أزمة مائية غير مسبوقة، تهدد بشكل مباشر القطاع الزراعي والأمن الغذائي، بعد سنوات من شح الموارد وتراجع الحصص المائية القادمة من دول الجوار. ويؤكد خبراء ومسؤولون في وزارة الزراعة أن العراق دخل مرحلة حرجة من الندرة المائية، تتطلب إجراءات عاجلة واستراتيجيات شاملة لإدارة المياه وترشيد استخدامها في جميع القطاعات.
ندرة حادة تهدد الأمن الغذائي
ذكر مهدي القيسي، مستشار في وزارة الزراعة، أن الوضع المائي في العراق يُعد من الأسوأ منذ سنوات، مشيراً إلى أن شح الموارد المائية من دول الجوار، خصوصاً تركيا وإيران، أثر بشكل مباشر على القطاع الزراعي. وقال القيسي: “معظم الإيرادات المائية للعراق تأتي من تركيا بالدرجة الأساسية، ثم إيران بالدرجة الثانية، إضافة إلى المياه المشتركة مع سوريا، التي تعتمد أيضاً على تركيا، لذلك فإن النقص الحالي يعد ناتجاً عن قلة الإيرادات المائية بسبب انخفاضها في السنوات الأخيرة".
وأوضح القيسي لـ(المدى)، أن "العراق مر بفترة شح للمياه السطحية، ما أدى إلى انخفاض المساحات المزروعة بالمحاصيل الاستراتيجية في محافظات الفرات الأوسط مثل النجف الأشرف والديوانية والمثنى"، وأضاف: "في السابق كانت المساحات المزروعة ضمن الخطة الصيفية تصل إلى 500 ألف دونم سنوياً، لكن خلال العامين الماضيين انخفضت هذه المساحات إلى نحو 150 ألف دونم، وهو رقم قليل جداً مقارنة بما كانت تزرع في السابق".
وأشار القيسي إلى أن هذا الوضع المائي سيؤثر بلا شك على الموسم الشتوي الحالي، موضحاً أن وزارة الزراعة تعمل على مواجهة الأزمة من خلال ترشيد استخدام المياه، خصوصاً المياه الجوفية، عبر منظومات ري حديثة. وقال: "لدينا منظومات تسع 86 و120 دونماً، تُوزع على الفلاح والمزارع، بحيث يتحمل المزارع 70 في المائة من كلفة المنظومة على مدى عشر سنوات، وتدعم الوزارة 30 في المائة، بهدف تمكين المزارع من اقتناء المنظومات واستخدامها لتوفير نحو 30 إلى 40 في المائة من المياه مقارنة بالري التقليدي من الأنهار والجداول".
وأضاف القيسي أن الوزارة ركزت على استخدام هذه المنظومات في محاصيل القمح الأساسية، لضمان الحفاظ على الموارد المائية، مشيراً إلى أن التجارب الزراعية ودوام الأصناف يتم إدارتها من خلال دائرة البحوث الزراعية. وأوضح أن الخضروات يجب زراعتها بنظام الري بالتنقيط، بينما تعتمد البساتين الحديثة، سواء نخيل أو حمضيات، على منظومات الري والرش لضمان الاستخدام الأمثل للمياه وتسهيل عمليات الخدمة الميكانيكية، مؤكداً أن كل الإجراءات تهدف إلى تقنين المياه وحمايتها من الاستنزاف. وأكد القيسي أن الوزارة قامت بعقود خارجية لتوفير حوالي 13 ألف منظومة ري، تم استلام أكثر من نصفها وبدأ توزيعها على الفلاحين والمزارعين. وأضاف أن الاستفادة من المواد الثانوية مثل المخلفات الزراعية ومخلفات المجاري والمخلفات الصناعية بعد تنقيتها يُعد ضرورياً لري المحاصيل غير المثمرة، مثل محاصيل الحواجز الهوائية، لتحسين البيئة الزراعية، شريطة أن تتم عملية التنقية بشكل علمي على مراحل، لضمان عدم تلوث المياه. وشدد القيسي على أن مواجهة الأزمة المائية تتطلب جهداً حكومياً واسعاً، مع تعاون جميع الجهات المعنية لضمان الاستخدام الأمثل للموارد المائية، وقال: "المطلوب ليس فقط إجراءات وزارة الزراعة، بل مشاركة المستفيدين والمزارعين، والاستفادة من الموارد والمخلفات بعد تنقيتها، لضمان ري المحاصيل بشكل آمن وفعال". وأضاف أن الجانب الدبلوماسي والتفاوض مع دول الجوار جزء مهم من الحل، موضحاً أن هناك مشتركات بين العراق ودول الجوار تشمل الميزان التجاري والاستثمارات الحالية والمستقبلية، فضلاً عن الأراضي التاريخية والدينية، وكلها يجب أن تُعتمد ضمن اتفاقيات ملزمة لضمان حصص العراق المائية.
واختتم القيسي حديثه بالتأكيد على أن الوضع الحالي يتطلب ترشيداً دقيقاً لاستهلاك المياه السطحية والجوفية، واعتماد أساليب ري حديثة، إلى جانب جهد حكومي دؤوب ومتضافر على المستويين الفني والدبلوماسي، لضمان استدامة الزراعة وحماية الأمن المائي في العراق خلال السنوات المقبلة.
واكد ايضا جاسم المالكي، عضو المكتب الاستشاري لنقابة المهندسين الزراعين، أن العراق دخل مرحلة حرجة من ندرة المياه، بعد أن كان يعاني سابقاً من مجرد شح مائي محدود.
وأوضح المالكي لـ(المدى) أن الفرق بين الشح المائي والندرة الحقيقية كبير جدًا، حيث يكون الشح مؤقتاً ويمكن تعويضه من خلال إجراءات بسيطة، بينما تتطلب الندرة استراتيجية شاملة لإدارة المياه وتغيير جذري في القطاع الزراعي واستهلاك المياه في كافة القطاعات.
وأشار المالكي إلى أن أسباب هذه الأزمة متعددة، تشمل النمو السكاني، التغيرات المناخية، وتجاوزات بعض دول الجوار على حصص العراق المائية. وأضاف أن المشكلة أصبحت واضحة وملحة وتتكرر سنويا، خاصة في مناطق الجنوب، مع البصرة كمثال حي على تأثيرات ندرة المياه. ففي هذا العام، وصل ارتفاع الملوحة في مجرى نهر الفرات إلى أكثر من 150 كيلومترا داخل مجرى النهر، وهي الحالة الثانية من نوعها منذ عام 2018، مما أدى إلى ارتفاع مستويات المياه في مركز المدينة إلى حوالي 30 مليار سنتيمتر، وهو مستوى قريب جدا من مياه البحر.
وعن تأثير هذه الأزمة على القطاع الزراعي، أكد المالكي أن القرار الأخير لوزارة الزراعة بإيقاف الموسم الشتوي وإيقاف أغلب الأنشطة الزراعية كان مناسبا لتجنب تكبد الفلاحين خسائر مالية كبيرة، نظرا لعدم توفر الحصص المائية اللازمة لسقي المحاصيل الاستراتيجية. وأضاف أن أي موسم زراعي يحتاج إلى كميات محددة من المياه، وعندما لا تتوفر، يصبح من المستحيل استكمال العمليات الزراعية دون خسائر جسيمة.
ودعا المالكي إلى إعادة النظر بشكل شامل في استراتيجية إدارة المياه في العراق، بدء من تحسين العلاقات الخارجية مع دول الجوار لضمان حصص العراق، وصولا إلى ترشيد الاستهلاك الداخلي في كافة القطاعات، سواء الزراعية أو الصناعية أو المنزلية. كما شدد على أهمية معالجة قضية تلوث المياه، نتيجة استمرار إلقاء مياه الصرف الصحي ومياه البزل الزراعي في الأنهار الرئيسة، مؤكدا ضرورة تحويل هذه المياه إلى محطات معالجة للاستفادة منها في أغراض مختلفة بدلًا من هدرها.
واضاف المالكي بالتأكيد على أن الأزمة الحالية تمثل فرصة لإعادة هيكلة إدارة المياه في العراق، بما يضمن حماية الموارد المائية والاستفادة المستدامة منها، لتفادي المزيد من الخسائر الاقتصادية والبيئية في المستقبل.
سوء الإدارة يفاقم الجفاف!
وحذر تحسين الموسوي، الخبير في الزراعة، من أن العراق يواجه حالياً أسوأ أزمة مائية في تاريخه، مشيراً إلى أن سوء الإدارة والتقاعس عن حماية الموارد المائية أسهم في تدهور الوضع إلى مستويات خطيرة. وقال الموسوي: "على مر التاريخ، كثير من الحضارات التي لم تحترم إيراداتها وحقوقها المائية تحولت إلى صحراء قاحلة، واليوم العراق يمر بأزمة مماثلة بسبب سوء الإدارة من جميع الجهات المرتبطة بهذا الملف، بما فيها المواطن نفسه".
وأشار الموسوي لـ(المدى)، إلى أن أزمة المياه انعكست على الخطط الزراعية والتنوع البيئي في البلاد، مؤكداً أن فقدان الموارد المائية أدى إلى هجرات كبيرة وارتفاع عمليات التصحر. وأضاف: "المشكلة أن نفس العقلية ونفس الإجراءات تتكرر، مجرد حلول ترقيعية لا ترتقي إلى مستوى الأزمة الحالية، فهي حلول آنية وليست استراتيجيات بعيدة المدى".
وأوضح الموسوي أن الوضع في البصرة مثال صارخ على تداعيات الأزمة، حيث نقل المياه عبر الحوضيات لم يعد كافياً لتأمين مياه الشرب، مؤكداً أن الخزين المائي المتوفر للعراق أقل من 10 مليار متر مكعب، وأن الصيف المرتفع الحرارة يؤدي إلى فقدان 5 إلى 8 مليار متر مكعب نتيجة التبخر. وأضاف أن جودة المياه الحالية لا تصل إلى المعايير العالمية، وأن أي ارتفاع في المياه قد يساهم في الحفاظ على أحواض الأنهار، لكنه لا يمثل حلاً جذرياً للأزمة، مشيراً إلى ضرورة البحث عن بدائل مستدامة على المدى الطويل. وتابع الموسوي حديثه بالقول إن حلول المياه الحالية بائسة، ولا تلتقي مع مستوى الضرر الذي وقع على العراق، محذراً من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى أضرار كبيرة على المستوى البيئي والزراعي والاجتماعي، ويتطلب اتخاذ إجراءات استراتيجية عاجلة وشاملة لحماية الموارد المائية وضمان استدامتها.










