بغداد/ محمد العبيدي
مذكرة أمنية جديدة بين بغداد وطهران فجّرت عاصفة من الجدل لم تهدأ بعد، فبينما ترى الحكومة العراقية فيها خطوة لتعزيز التعاون الحدودي والاستخباري مع جارٍ ثقيل الوطأة، تنظر واشنطن إليها كحلقة إضافية في سلسلة نفوذ إيراني متصاعد داخل العراق.
وجاء توقيع مذكرة التفاهم بحضور رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ومستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، وبمشاركة علي لاريجاني القادم حديثاً إلى منصبه الإيراني الرفيع، ما منحها ثقلاً سياسياً يتجاوز حدودها الفنية، وأدخل بغداد في اختبار جديد بين ضغوط واشنطن وإملاءات طهران.
ولفهم حساسية هذه المذكرة، لا بد من العودة إلى اتفاقية مارس 2023 التي ربطت بغداد وطهران بترتيبات أمنية ركّزت أساساً على تحييد الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة داخل إقليم كردستان، إذ ألزم الاتفاق بمنع أي نشاط ضد إيران، مقابل أن تحظى بغداد بهدوء نسبي على حدودها الشرقية، غير أن التنفيذ لم يكن كاملاً، وهو ما دفع طهران إلى السعي لتطوير الاتفاق.
ولا تبدو إيران معنية فقط بحراسة الحدود، بل بترسيخ جبهة خلفية آمنة تحسباً لمواجهات محتملة مع إسرائيل، وفق مراقبين.
أما واشنطن، فهي ترى الصورة بشكل مغاير تماماً، بالنسبة إليها، أي اتفاق أمني جديد مع إيران لا يُقرأ إلا باعتباره بوابة إضافية لهيمنتها على القرار العراقي.
ولا يتوقف القلق الأميركي عند البنود المعلنة التي تتحدث عن "التنسيق الأمني والاستخباري"، بل يتجاوزها إلى مخاوف من بنود غير معلنة تمنح طهران نفوذاً مباشراً على تحركات القوات العراقية وربما الأميركية.
وعبّرت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس عن رفض صريح، مؤكدة أن الولايات المتحدة "تدعم السيادة العراقية الحقيقية، لا التشريعات أو الاتفاقات التي تحوّل العراق إلى دولة تابعة لإيران"، وهي رسالة جاءت في وقت حساس داخل البرلمان العراقي الذي يناقش قانون الحشد الشعبي، ما جعل الربط بين الملفين أمراً بديهياً في الخطاب الأميركي.
نقطة توتر جديدة
بدوره، أكد الباحث في الشأن السياسي علي ناصر أن "الأمن القومي الإيراني يعتمد بشكل كبير على ما يجري في الداخل العراقي، خصوصاً بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر في غزة، في حين تسعى واشنطن إلى خنق إيران اقتصادياً، ويُعد العراق أحد المنافذ الرئيسة في هذا الصراع".
وبيّن ناصر في حديث لـ(المدى) أن "الولايات المتحدة تنظر إلى أي اتفاق يُبرم بين بغداد وطهران على أنه تهديد لمصالحها في الشرق الأوسط، حتى لو كان هذا التهديد محدوداً"، مشيراً إلى أن "هذه المواقف الأميركية قد تكون وسيلة للضغط على إيران من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات وفتح ملف الاتفاق النووي من جديد".
وختم بالقول إن "العراق يحاول الحفاظ على الحياد وتقريب وجهات النظر بين الطرفين، خصوصاً في هذه المرحلة الحساسة التي تسبق الانتخابات المقبلة، إذ أن استقرار الأمن الداخلي وضمان انتقال سلمي للسلطة يمثلان أولوية قصوى للحكومة".
مغزى الاتفاق
وفي موازاة القراءة السياسية التي تربط الاتفاق بالتوتر مع واشنطن، يلفت أكاديميون عراقيون الانتباه إلى إشكاليات تتعلق بمغزى توقيع مذكرة جديدة رغم سريان اتفاقية سابقة ما زالت نافذة.
وقال أستاذ العلوم السياسية مهند الجنابي، في حديث لـ(المدى)، إن "توقيع اتفاقية أمنية جديدة يثير التساؤلات في ظل التزام العراق باتفاقية مماثلة أُبرمت عام 2023 ونُفذت فعلياً".
ويشرح الجنابي أن "دوافع هذه الخطوة قد تكون مرتبطة بملفات غير معلنة تخص السلاح خارج إطار الدولة والفصائل المسلحة المرتبطة بإيران"، مشيراً إلى أن "مثل هذه القضايا لا تُطرح علناً لكنها تُدار في الغرف المغلقة بين الطرفين".
ولم تعد المذكرة الأمنية بين بغداد وطهران، مجرد وثيقة فنية لتأمين الحدود، بل تحولت إلى مرآة تكشف حجم الصراع الدولي والإقليمي على العراق، فهي بالنسبة لإيران ضمانة لحماية جبهتها الغربية، وبالنسبة لواشنطن إنذار مبكر على تمدد نفوذ خصمها في قلب المنطقة، أما للعراق فمثلت – وفق مختصين - اختباراً معقداً لقدرته على إثبات استقلالية قراره السياسي وسط ضغوط متعارضة.
مذكرة أمنية بين بغداد وطهران تفجّر جدلاً دولياً.. العراق بين ضغوط واشنطن وإملاءات إيران

نشر في: 18 أغسطس, 2025: 12:09 ص









