TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كشف حساب الدولة 2025: دليل على أن الإصلاح الاقتصادي ما يزال شعاراً

كشف حساب الدولة 2025: دليل على أن الإصلاح الاقتصادي ما يزال شعاراً

نشر في: 19 أغسطس, 2025: 12:01 ص

د.سهام يوسف علي

منذ عام 2003، تحوّل الحديث عن "الإصلاح الاقتصادي" إلى لازمة في الخطاب الحكومي العراقي، حتى أصبح الشعار الأكثر تداولاً في الموازنات والبرامج الوزارية وخطط التنمية. غير أن الواقع المالي والاقتصادي، كما تكشفه بيانات المالية العامة وتقارير المؤسسات الدولية، يبرهن أن الإصلاح لم يغادر دائرة الخطاب السياسي، وأن العراق ما يزال أسيراً لاقتصاد ريعي استهلاكي هش.
من المؤكد أن الإصلاح الاقتصادي لا يحدث بين ليلة وضحاها، فهو عملية تراكمية تتطلب سنوات من العمل المتواصل. لكن المشكلة في الحالة العراقية لا تكمن في قصر أو طول المدة اللازمة للإصلاح، بل في أن الحكومات لم تنفذ حتى الخطوات الأساسية لإرساء مسار الإصلاح. فمنذ 2003 وحتى اليوم، شهدت أسعار النفط موجات ارتفاع وفّرت للحكومات المتعاقبة إيرادات استثنائية، إلا أن العراق لم يستثمر هذه الموارد في إصلاح هياكله المالية أو بناء قاعدة إنتاجية، بل انصرف إلى توسيع فاتورة الرواتب والدعم وزيادة الإنفاق الجاري على حساب قطاعات الإنتاج الفعلي مثل الزراعة والصناعة التحويلية. النتيجة أن نسبة الاعتماد على النفط لم تنخفض، بل ارتفعت لتصل إلى 91‌% من إجمالي الإيرادات عام 2025.
.ويتضح ذلك بجلاء في مؤشرات النصف الأول من عام 2025، التي تكشف عن واقع اقتصادي متباين: تراجع في الإيرادات، تقلص في الاستثمار، مقابل تضخم مستمر في الرواتب والدعم الاجتماعي. هذه المعطيات، إلى جانب النمو الاقتصادي السلبي لعام 2024 الذي بلغ –0.9‌% وفق تقرير البنك الدولي (World Bank, 2024, October)، تقدم دليلاً عملياً على أن الاقتصاد العراقي ما يزال أسيراً لهيمنة النفط، وأن السياسات الحكومية لم تنجح في سد الفجوة بين الموارد الريعية المتاحة والحاجة إلى استثمارات إنتاجية تولّد نمواً مستداماً.
ولفهم عمق هذه الأزمة، لا بد من تحليل بنود الإيرادات والنفقات التي تكشف بجلاء الهيمنة النفطية والاختلالات البنيوية في المالية العامة. فقد بلغ إجمالي الإيرادات في النصف الأول من عام 2025 نحو 62 تريليون دينار،، شكلت الإيرادات النفطية 91‌% منها (56.7 تريليون دينار)، بينما لم تتجاوز الإيرادات غير النفطية 9‌% فقط (5.3 تريليون دينار). هذه الأرقام لا تترك مجالاً للشك في فشل الحكومات المتعاقبة في توسيع القاعدة الضريبية أو بناء مصادر بديلة ومستقرة للتمويل.
وعند النظر إلى جانب النفقات، تشير البيانات إلى خلل بنيوي واضح في هيكلها، فقد بلغ إجمالي الإنفاق 56.69 تريليون دينار، استحوذ الإنفاق الجاري على 52.75 تريليون دينار، أي ما نسبته 93‌% من الإجمالي، وهو مستوى مرتفع يعكس الميل نحو الاستهلاك بدلاً من الاستثمار. وضمن هذا الإنفاق الجاري، شكّلت الرواتب والأجور 30 تريليون دينار، أي ما يقارب 53‌% من إجمالي النفقات، بينما بلغت مخصصات الرعاية الاجتماعية 13 تريليون دينار (حوالي 23‌% من الإجمالي). في المقابل، لم يتجاوز الإنفاق الاستثماري 3.94 تريليون دينار، أي ما يعادل 7‌% فقط من الإنفاق الكلي، وهو مستوى أدنى بكثير من الهدف الحكومي المعلن (≥25‌%).
من غير المنطقي أن يشكل الإنفاق الاستثماري 7‌% فقط من إجمالي النفقات، بينما يُرفع شعار "الإصلاح الاقتصادي" ويتحدث عن تنويع الاقتصاد وتنمية الإنتاج. هذه النسبة المتدنية تعكس أن الحكومة لا تهتم إلا بتغطية الإنفاق الجاري – الرواتب والدعم الاجتماعي – على حساب الاستثمار في القطاعات المنتجة، وهو البند الوحيد القادر على توليد النمو المستدام وتقليل الاعتماد على النفط. وفي ظل هذه المعطيات، يظل الحديث عن الإصلاح مجرد شعار بلا تطبيق عملي، ويصبح الاقتصاد العراقي أسيراً لدائرة الاستهلاك الريعي والهشاشة الهيكلية.
أن الاستثمار العام ليس مجرد بند مالي، بل هو الركيزة الأساسية لبناء قاعدة إنتاجية قادرة على توليد النمو المستدام، وخلق فرص العمل، وتنويع مصادر الإيرادات بعيداً عن الريع النفطي.وتؤكد قراءة مؤشرات الأداء (KPIs) للنصف الأول من 2025 هذا الاتجاه بشكل أكثر وضوحاً:
1.الإيرادات غير النفطية لا تتجاوز 9‌% من إجمالي الإيرادات، بينما حدّدت الحكومة العراقية في الموازنة السنوية والبرنامج المالي الإصلاحي هدفًا 20‌%.
2. الإنفاق الاستثماري لا يزيد على 7‌% من إجمالي النفقات، في حين كان الهدف الرسمي أكثر من 25‌% وفق نفس البرامج الحكومية.
3.الرواتب تبتلع أكثر من نصف الإنفاق الجاري، والإنفاق الاجتماعي يبلغ 13 تريليون، أي أكثر من ثلاثة أضعاف الإنفاق الاستثماري البالغ 3.94 تريليون.
4. يشير انخفاض معدل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى –0.9‌% في 2024 إلى انكماش اقتصادي واضح، ما يعني أن حجم الإنتاج الفعلي للسلع والخدمات أقل مقارنة بالعام السابق. هذا الانكماش يعكس ضعف القدرة الإنتاجية للاقتصاد العراقي، الناتج عن تركيز الإنفاق العام على الرواتب والدعم الاجتماعي وتدني حجم الإنفاق الاستثماري في القطاعات المنتجة، مع اعتماد شبه كامل على الإيرادات النفطية.
في هذا السياق، يشكل النمو السلبي إنذاراً واضحاً للحكومة: استمرار هذا النمط المالي الاستهلاكي سيؤدي إلى مزيد من الانكماش، وتراجع فرص العمل، وضغوط على الإيرادات غير النفطية، ويضعف استدامة التنمية الاقتصادية على المدى المتوسط والطويل.كومة في إنفاق الرواتب والدعم بنفس المعدل، ويصعّب تحقيق إصلاح مالي وتنمية مستدامة.
إن هذه المؤشرات مجتمعة تعكس بوضوح أن ما يسمى بـ"الإصلاح المالي" ما يزال شعاراً أكثر منه واقعاً، إذ لا يمكن الحديث عن تنويع اقتصادي أو تنمية مستدامة في ظل موازنة يغلب عليها الطابع الاستهلاكي، ويُهمل الاستثمار المنتج الذي يُفترض أن يكون قاطرة التغيير.
وتقدم تجارب الدول النفطية الشبيهة، مثل السعودية وقطر وإيران، دروساً مهمة بالنسبة للعراق. فالسعودية، رغم اعتمادها الكبير على النفط، ركزت خلال العقدين الأخيرين على تنويع الاقتصاد عبر رؤية 2030، واستثمار الموارد في الصناعة والخدمات والسياحة، مع ضبط نسبي للإنفاق الجاري. قطر استثمرت فائض النفط والغاز في البنية التحتية والصناديق السيادية لتعزيز التنمية المستدامة. إيران، رغم التحديات الاقتصادية والعقوبات، ركزت على تطوير بعض القطاعات الإنتاجية وتقليل الاعتماد المطلق على النفط في إيرادات الدولة.
هذه التجارب توضح أن الوفرة النفطية يمكن أن تكون أداة للإصلاح والتنمية المستدامة إذا رُبطت بالاستثمار الحقيقي وتنويع الاقتصاد، وهو ما لم تفعله الحكومات العراقية خلال العقدين الماضيين.
لتحويل الإصلاح من شعار إلى واقع، هناك حاجة عاجلة لاتخاذ إجراءات هيكلية جذرية:
1.إصلاح ضريبي شامل: توسيع القاعدة الضريبية، مكافحة التهرب، وإعادة هيكلة النظام ليكون أكثر عدالة وكفاءة.
2.زيادة حصة الاستثمار العام إلى ≥25‌% من النفقات، مع أولوية للبنية التحتية والطاقة والزراعة والصناعة التحويلية، وتطبيق معايير شفافة لمتابعة المشاريع.
3. تفعيل دور القطاع الخاص: إزالة معوقات الفساد والبيروقراطية، وضمان حقوق المستثمرين، وتعزيز شراكات القطاعين العام والخاص.
4. ضبط النفقات الجارية: مراجعة هيكل الرواتب والدعم الاجتماعي وربطها بالإنتاجية واستهداف الفئات الأكثر هشاشة.
5. استراتيجيات للتنويع الاقتصادي طويل الأمد: الاستثمار في الطاقة المتجددة، تطوير الصناعات الوطنية، وتشجيع الزراعة الذكية والاقتصاد الرقمي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram