علاء المفرجي
جاء من موطن عثمان الموصللي، مدينة الموصل التي شهدت في أواخر العقد الثاني من القرن الماضي ولادة شقيقين موسيقيَّيْن فذَّين، سيكون لهما شأنا كبيرا في الموسيقى العراقية والعربية، هما: جميل ومنير بشير، لأب نجّار وموسيقي وصانع أعواد ماهر.
كان "منيرا" في الخامسة من عمره عندما كان يجلس مستمعا بخشوع لأبيه وهو يحتضن عوده ويغني، كانت البيت هادئاً تماماً، والأنغام وحدها تملأ المكان، ترتفع وتنخفض، تهمس وتصرخ، تناجي وتتعذب، بينما الصغير منير يتحرَّق شوقاً لتجربة إحتضان آلة العود وتعلم العزف، وكان أخوه جميل قد بدأ يجيد العزف على الكمان، لكن الأب كان يحتفظ بالعود في موضع أمين لا تطاله يد منير.
وعن هذا المشهد، يقول منير بشير: "إنتهزتُ فرصة غياب أبي عن البيت، وحاولتُ أن أحرك العود المعلّق عن موضعه، وضعتُ الوسائد فوق بعض، لكنني لم أوفّق في الوصول إليه، تنبهت أمي لذلك وحذّرتني، بل هدّدتني بما يمكن أن أتعرّض له لو عرف أبي بالأمر، شعرتُ بالخوف الشديد، لكني لم أستطع مقاومة رغبتي الجامحة التي قادّتني إليه مره أخرى، وبحذر شديد نجحت في إنزال العود من مكانه المرتفع، حدّقتُ فيه، إحتضنته ولامست أوتاره، ويوماً بعد يوم صارت العملية تتكرر، ثم بدأت أصابعي تكتسب مرونة، وتتعمّق الألفة بين هذه الأصابع والأوتار".
بغداد.. الدراسة والنبوغ
في سنٍّ مبكرة، إلتحق منير بشير بـ "معهد الفنون الجميلة" في بغداد، درس الموسيقى، وتتلمذ على يد المعلّم الشريف محيي الدين حيدر، الذي درّسه العزف على آلتي العود والتيشللو، وأثّر فيه فنياً وثقافياً وتربوياً.
في المكان ذاته، كان أخوه جميل يوطّد خطواته؛ ليصبح أحد أعمدة التحديث في الموسيقى والغناء بالعراق، غير أن رحيله المفاجئ في السبعينيات جعل الموسيقى العراقية والعربية تخسر قدراته الخلاقة كعازف على العود، ومؤلف في أشكال موسيقية متعددة.
من معهد الفنون الجميلة إلى دار الإذاعة العراقية، حيث عمل منير بشير عازفاً في الفرقة الموسيقية، ثم مخرجاً موسيقيا، قبل أن يصل الى محطة التلفزيون، الذي كانت يومها أول محطة في الشرق الأوسط والوطن العربي، (افتتحت المحطة عام 1956 في ذكرى عيد ميلاد الملك فيصل الثاني)، وعمل مخرجاً للبرامج الموسيقية والغنائية.
من بغداد، إنتقل لإكمال دراساته الموسيقية العليا في أكاديمية (فرانز ليست) في بودابست بهنغاريا، وحصل على الدكتوراه، من قسم الفنون التراثية والشعبية بأكاديمية العلوم، وبإشراف المؤلف الهنغاري الكبير سلطان كوادي الذي نصحه بأن يظل في قلب جذوره الموسيقية، ويعود إلى منطقته، فوصل بشير إلى بيروت؛ حيث أقام بين 1966 و1973، وتعاون مع موسيقيّي وفناني لبنان: "احتضنتني بيروت في الأيام الصعبة، وفيها صدرت أسطوانتي الأولى مطلع الستينيات، ومنها حقّقتُ انطلاقتي العالمية"، وفي بيروت إكتشفه سيمون جورجي، عالم سويسري، يعد من أبرز المختصين في الموسيقى الشرقية، فدعاه للعزف في جامعة جنيف؛ حيث سُجّلت إحدى حفلاته في العام 1967، وصدرت كأسطوانة، عُدَّت الخطوة الفعلية الأولى نحو الشهرة.
ملامح شخصيته الفنية
حققت له جولاته العديدة والمتكررة في معظم بلدان العالم، إستزادةً في المعرفة وإتساعاً في الخبرة، فترسخت لديه قناعة صميمية بضرورة الحفاظ على التقاليد الموسيقية بكل طقوسياتها، وتقديمها بما يتوافق مع روح العصر، دون الخروج من لبوس الموسيقى العربية، هوية إنتماء وإصالة مفاهيم وتعبير جمالي.
كان على خلافٍ مع أساليب ملحني القرن العشرين من العرب، المصريين واللبنانيين والعراقيين المتأثرين بها، الذين ابتعدوا عن الهوية القومية للموسيقى العربية، جراء استعارة أساليب الغير شكلاً وبنيةً وتعبيراً. وقد كان جريئاً للغاية في (تصدّيه) لتلك الأساليب عبر منابر الصحافة واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية والمحاضرات.
لقد جاهد للخروج بالآلة الموسيقية العربية من محدودية استعمالاتها بشكل ثانوي في مصاحبة الغناء. مؤكداً قدراتها الواسعة غير المحدودة في الأداء والتعبير، إنطلاقاً من تطوير أسلوب التقسيم التقليدي إلى سياحة آفاقية من الإرتجالات الحرة المبنية على الإنتقالات المقامية العربية، بعيداً عن التطريب المفتعل. فصار – بحق – صاحب مدرسة متفردة في هذا المجال، إقتدت بها العديد من معاهد الموسيقى في العالم العربي، وصار أسلوبه واضحاً في أداءات معظم عازفي العود المحدثين العرب، إذ تحول أداؤه من شكل العزف المتوسِّل للإعجاب، إلى منطلقاتٍ تأملية وجدانية، لكأنك داخلٌ صومعة متعبد تستوجب الإنصات التام بكل خشوعٍ.
بالقدر الذي حصل فيه منير بشير على الإعجاب والتقدير لأداءاته الفنية الفريدة، وخدماته في نشر الموسيقى العربية في العالم، حصل على الكثير من النفور من الناس وحتى من زملاء العمل والأصدقاء. فهناك من يقول عنه متكبراً مغروراً صلفاً، فالمكابرة عنده نابعة من إخلاصه للقضية التي حمل لواءها – التحول بالموسيقى العربية من أجواء الطرب الخانع إلى آفاق العلم والعقل ومخاطبة الفكر والوجدان. والغرور لديه صفة قد تفرز سماتٍ يراها البعض بهذا الشكل، لكنها ما كانت غروراً قدر ما استحق من تقديرٍ من لدن العالم، مؤسسات ومحافل ثقافية وإعلامية وفنية، ومن رؤساء وملوك وزعماء دول: الذين لم يلمسوا عنده مثل هذا الغرور والتكبر، فمنحوه الأوسمة والمفاتيح والدروع والشهادات والجنسيات الفخرية. أما عن صلفه، فهو حاد الطباع عند الدفاع عن قضية الموسيقى العربية، وهو كالطفل الصغير في براءة التعبير للآخرين.
وعي بالتراث الروحي
يقول الناقد الموسيقي علي عبد الأمير عجام:
يعدّ الفنان بشير علامة فارقة في العزف على آلة العود، وصاحب طريقة خاصة في مقاربة فن المقام والارتجال، فالمقامات - كما يؤديها منير بشير - تأملية، تنزع إلى التصوف والزهد، وتعكس فكره وفلسفته، وهما ينبعان من عمق وعيه للتراث الروحي العربي، الموسيقي والغنائي بخاصة، وهو بارع في تطويع البنية النموذجية للمقام، وخلق أجواء مشحونة بالعواطف، يحسّ بها المستمع إليه، عربياً كان أم غير عربي، وآلة العود خاصته، هي من صنع (محمد فاضل) العوّاد الأمهر في بغداد والشرق العربي، ووفقاً لتعليمات منير بشير نفسه، مشدودة إليها خمسة أوتار مزدوجة، ووتر سادس غليظ فوقها.
وكان يراعي في تأليف مقطوعاته أصالة مرجعياتها الموسيقية واللحنية، ناهيك عن أسلوب العزف المتقن في حال تقديمها على آلته، فمقطوعته "رحلة مع العود" الطويلة نسبيا في وقتها (أكثر من 15 دقيقة)، تحفل بتنويع مقامي لافت، وما يميّز تلك المقطوعة هو الروحية التي اغتنت بها، ومهارات العرف تنسجم مع التصوير في تأليف القطعة، ومعاً ينتجان (العزف والتصوير)، طاقة في التعبير تعجب كيف لهذه الآلة (العود) أن تختزنها؟ فهناك (تجريدات) على ملامح الشحن والندم والحنين، ثمة البوح الجميل وثمة الفرح الطليق أيضاً، وكي لا تذهب بعيداً في تلك التجريدات، تعود بك ضربات منير بشير إلى أنغام شبه معتادة، بالنسبة لك، كي تصبح محطات ربط بين أجزاء اللحن الكلي، وإذا كان التنويع المقامي والارتجال ميزة لفن منير بشير، فهو في مقطوعة "جولة مع العود"، قدم درسا في هذا الشأن، يظل قادراً على التأثير مع كل مرة تسمع فيها المقطوعة؛ حيث أنامل تبدعها. كان الراحل منير بشير صاحب لمسة مميّزة في العزف على العود حسب "المدرسة العراقية"، وفي مقطوعاته، تمثّل حقيقي لأجمل ما في تلك المدرسة من ملامح في العزف؛ حيث: الزخرفة والرشاقة والطراوة والميل إلى الغنائية، والاتصال ما بين الموسيقى الشرقية وروحيتها والموسيقى العربية.
منير بشير وتحديثه للموسيقى العراقية
قبل منير بشير، كان العود يُنظر إليه عادة كآلة مصاحبة في الأغاني أو الفرقة، لكنه كان أول من رفع مكانتها إلى الآلة المنفردة التي تتصدر المشهد، فقد قدم ما يُعرف بـ "Recital " للعود المنفرد، مبنيًا في ذلك على سلسلة من التقطيعات المتتالية، التي تشكل عملًا موسيقيًا متكاملًا للحفلات المستقلة.
طور منير بشير ضبطًا فريدًا للعود يُعرف باسمه، يتضمن مضاعفة وتر العلوى (F) بنغمتين: واحدة بنفس النغمة وأخرى بثمان أوكتاف أدنى، ما يضفي صوتًا غنيًا وعريضًا.. كما طوّر نسخة مع وضع وتر F إضافي في الأسفل وبعض الأحيان إضافتين، ما يؤدي إلى إطار صوتي واسع يحيط بالوتر الإيقاعي المركزي، رغم أنه يتطلب تقنية عالية جدًا في النقر
واشتهر بدقّة ونعومة نقره باستخدام الريشة، على عكس الأساليب الأثقل، مما سمح له بأداء نغمات سريعة ومعقدة في إيقاعات متعددة كـ 10/8 بطريقة سلسة وواضحة جدًا، وجرب أيضًا النقر بالأصابع، مستلهماً أساليب من العزف الغيتاري والفلامنكو، رغم أنه توقف عن استخدام مشقار الإبهام الذي تعرّف عليه عند دراسة السيتار الهندي، كما أدرج استخدام التوافقيات في أسلوب العزف، وهي تكنيكات كانت نادرة الاستخدام على العود قبل ذلك، لكنه دمَجها ببراعة لتوسيع الإمكان التعبيرية للآلة.
ورغم حبه العميق للتراث الموسيقي العربي، كان منير بشير منفتحًا على التأثيرات الموسيقية من الهند وأوروبا والفلمنكو؛ لكنه كان حريصًا على دمجها بطريقة طبيعية ومتماسكة، دون ضمّ أساليب خارجية بشكل سطحّي، كمثال بارز، مقطوعته "الأميرة الأندلسية"، التي تبدأ بمنفرد أسلوب غربي وهو غير مألوف في الموسيقى العربية—ثم يتحول تدريجيًا إلى مقام حجاز كرد بأسلوب يمزج طابع الفلمنكو مع العربية
وأصبح أسلوب بشير في العزف معروفاً ومُقلّدًا داخل العود العربي، فظهر ما يُعرف بـ bashirisms""، وهي عبارات أو أهداف لحنية مقطعية مُميزة يمكن لعشّاق الموسيقى العربية التعرف عليها تمامًا كما يتعرف عشاق الجاز على أنماط تشارلي باركر أو لويس أرمسترونغ
وكان أثر تلك الابتكارات على الموسيقى العراقية، هو رفع منير بشير العود إلى مقام الآلة المنفردة التي تستحق اهتمام المستمع الصامت والمتأمل، بعيدًا عن أجواء البهجة المفتعَلة أو المصاحبة فقط. كما أحدث ثورة في طريقة اللعب الفني من حيث التقنيات والإيقاعات، ما شكّل مرحلة جديدة في أداء العود العربي. ترك بصمة مسموعة ومتميزة في قوالب العزف على العود، حيث كُوّنت مدرسة تسمى باسمه، وأثّرت أجيالاً من العازفين في العراق والعالم العربي.
فمنير بشير لم يكن عازفًا مبدعًا فحسب، بل كان محدثًا حقيقيًا في الموسيقى العراقية والعربية. من خلال إعادة صياغة دور العود، وابتكار تقنيات جديدة، وفتح آفاق للتأثر والتحاور الموسيقي مع ثقافات أخرى—كل ذلك جعله علامة فريدة في التاريخ الموسيقي، تركت أثرًا لا يُمحى على الأجيال اللاحقة.
درس ورؤية منير العصرية
يقول قارئ المقام الكبير حسين الأعظمي في قسم من يومياته عن منير بشير:
درس آخر من الدروس التربوية التي نبهنا عليها استاذنا الراحل منير بشير، الذي يكاد يكون من اهم الدروس التربوية للفنان امام جماهيره ومحبيه، درس يتسم بذروة الاخلاق والتربية واحترام الآخرين، درس تعلمتُ من خلاله على مفهوم عملي كان الموسيقار منير بشير يذكرنا به دائما، هو الاعتماد على النفس ذاتيا في بناء الاعمال الفنية ولا نعتمد على الغير او على الحالات الجاهزة، ليكون بعدئذ البناء السليم والصلب للأعمال الفنية وللاسم والشهرة الحقيقية بين الاوساط الجماهيرية.
في احدى الحفلات الدورية لفرقتنا (فرقة التراث الموسيقي العراقي) في قاعة الخلد ببغداد عام 1976، كنا على موعد محدد لإقامة هذه الامسية. وكان نصاب اعضاء الفرقة معروفا ومكوَّناً من المطربة الشهيرة مائدة نزهت وأنا وصلاح عبد الغفور وفرقة الايقاعات العراقية، فضلا عن وجود استاذنا الموسيقار منير بشير. بصورة عامة بالنسبة للغناء، كانت المطربة مائدة نزهت مشهورة ومعروفة بشكل واسع بين الجماهير. وكنت انا وصلاح عبد الغفور في بداية مشوارنا وشهرتنا نحاول ان نبني لنا مستقبلا فنيا مرضيا، وكذلك الامر لبقية اعضاء الفرقة من الموسيقيين وفرقة الايقاعات العراقية رغم شهرة قائدها سامي عبد الاحد.
لابد ان نذكر شيئا مهما بالنسبة لإقامة مثل هذه الاماسي التي نقيمها داخل بلدنا العراق. فقد كان الاستاذ منير بشير كمدير عام للدائرة التي ننتمي اليها (دائرة الفنون الموسيقية) المسؤولة اداريا ورسميا عن فرقة التراث بصورة مباشرة. كان لا يعمل على اعلان او نشر اي خبر لموعد اقامة حفلاتنا! وفي حينها كانت الاسباب مجهولة بالنسبة لنا، وكانت هذه هي معاناتنا الدائمة في هذا الامر. وعليه كانت اغلب حفلاتنا لا يحضرها جمهور كثير، سوى بعض المعارف والاصدقاء او من عوائل الزملاء الفنانين وهو اغرب ما في الامر! ربما كان يخشى من زيادة معرفة الناس والجماهير بنا ونمسي فنانين معروفين قد يؤدي بنا هذا الامر الى ترك الفرقة والعمل في مؤسسات فنية او مجالات اوسع فيها اتاحة فرص اوفر من دائرة منير بشير في بناء الاسم والشهرة!، خاصة ونحن شبابا يافعين نطمح بقوة نحو الشهرة وبناء التاريخ الشخصي. بدليل ان صلاح عبد الغفور عندما غنى اغنية (حلوة يا البغدادية) التي اخذت مجالا جيدا في شهرته كمطرب، استغنى عنه الموسيقار منير بشير وقال له: "إنك اصبحت مغنيا حديثا لا تلائم اهداف فرقة التراث الموسيقي العراقي". وانتقل صلاح الى المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون. على كل حال، ان لهذا الامر حديث كثير لسنا بصدده الان!
نعود الى حفلتنا المقررة في قاعة الخلد، فقد حضر جميع اعضاء الفرقة الى قاعة الخلد مبكرا وعلى الموعد استعدادا لإقامة امسيتنا الدورية، وقد كان حاضرا الفنان الكبير وديع خوندة المعروف باسمه الفني (سمير بغدادي) الذي جاء مصطحبا زوجته الفنانة مائدة نزهت، وفي هذه الاثناء ارتدينا جميعا الملابس الشعبية الخاصة بعروضنا الفنية كالعادة. وبقينا ننتظر الجمهور وساعة البدء..! مضى معظم الوقت ولم يحضر اي شخص من الجمهور! سوى حضور حارس القاعة وهو الموظف فيها اساسا، مصطحبا معه عائلته، زوجته واولاده فقط! وهو الوحيد الذي يعرف بإقامة هذه الامسية!، خاصة وقد علمت عائلته بوجود المطربة الشهيرة مائدة نزهت ضمن فقرات الامسية، وعليه جاء بعائلته الى القاعة.
اقتربت الساعة كثيرا من الساعة الثامنة مساء، ولم يبق سوى دقائق معدودات لموعد البدء بالأمسية، ولكن لم يحضر أحدا، فعكفنا جميعا الى غرفة الملابس لنخلع الملابس الشعبية ونرتدي ملابسنا الاعتيادية ايذانا بإلغاء الامسية لعدم حضور الجمهور.
في هذه اللحظات ظهرت عبقرية منير بشير، فقد صاح بنا صيحة مدوية ادهشتنا وفاجأتنا.
- ماذا أنتم فاعلون؟ ولماذا تذهبون الى غرفة الملابس؟
- استاذ منير، الساعة الان هي الثامنة الا دقائق قليلة ولم يحضر أياً من الجمهور فلمن نغني؟
- الجمهور موجود امامكم!
قال ذلك بحدة وهو يشير الى الحارس وعائلته واسترسل يقول مكملا كلامه.
- أليس هذا الرجل موجودا مع عائلته، هل تستصغرون الناس وتتكابرون عليهم؟ ماذا يقول لزوجته واولاده، وما هو ذنبهم في الموضوع، هل يعودون الى بيتهم بسبب قلة الجمهور الحاضر؟ ما علاقتهم بهذا الموضوع؟ من العار علينا جميعا ان لا نحترم هذه العائلة الحاضرة التي قَـدِمتْ من بيتها لتستمع وتتمتع بعروضنا! هيا استعدوا لأداء فقرات الامسية. وسأصعد أنا على المسرح قبلكم لافتتح الامسية اكراما لهذه العائلة الحاضرة.
بقينا كلنا ينظر أحدنا للآخر بدهشة واستغراب من كلام استاذنا الموسيقار منير بشير الذي أقنعنا كلامه كما يبدو، بل اخجلنا جميعا، بعد اعطانا درسا لم ولن ننساه حتى اليوم! وعادت نفوسنا تتهيأ لاداء فقراتنا في هذه الامسية، والمثير في الامر بعد ان أقمنا الامسية، ان الامسية كانت واحدة من اجمل الاماسي التي اقمناها في بغداد! عزف منير بشير منفردا، وغنت مائدة نزهت، وغنيت انا، وغنى صلاح عبد الغفور، وادت فرقة الايقاعات العراقية بقيادة سامي عبد الاحد فقرتها، اضافة الى كل ذلك فقد سجلت الامسية كلها بواسطة اشهر مخرج اذاعي عراقي هو سعد محمود حكمت الذي كان مؤسسا ومشرفا على الاستوديو الاذاعي الموجود في دائرتنا!
واقع الحال، كانت هذه الامسية درسا عظيما في التربية والاحترام، وسرعان ما حضرني وما زال يحضرني القول العربي الشهير (لكلِ قادمٍ كرامة). ومن هذه التجربة الاخلاقية في هذه الامسية من عام 1976 انتبهت الى هذا الدرس التربوي والاخلاقي، وسرت على هديه حتى يوم الناس هذا، ومن خلاله الاعتماد على النفس في بناء المستقبل الفني وليس الاعتماد على الحالات الجاهزة التي بناها غيرك، ربما لا تعرف خفاياها وطريقة بنائها وهو أرجح الظن، وفعلا استفدت كثيرا جدا من هذه التجربة التربوية خلال مسيرتي الفنية التي مضى عليها اكثر من خمسة واربعين عاما. رحم الله المتوفين واطال في اعمار الباقين انه سميع مجيب الدعاء.
من الملامح المثيرة للجدل في سيرة صاحب أسطوانة "جذور الفلامنكو"، أنه في عودته إلى بغداد 1973، سعى لنقل كل ما آمن به، وقد تجسد في مؤسسات موسيقية فنية وتربوية عبر إدارته للنشاط الموسيقي العراقي: دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الثقافة والإعلام، وهنا وعلى جاري العراق المتنافر، تتعدد الآراء، بشأن الدور الذي لعبه منير بشير في الموسيقى العراقية، لنحو عشرين عاماً، امتدت من أوائل سبعينات القرن الماضي حتّى أوائل تسعينياته، فثمة مَنْ يرى أنه وضع الفنون الموسيقية العراقية على درب التنظيم والعمل الأكاديمي الرصين حتّى وإن بدا متفرداً برأيه الذي كان يستمد قوته من علاقته الوثيقة بالسلطة العراقية خلال سنوات حكم البعث، مثلما هناك من يسند إليه كثيراً من الاتهامات، من مشتغلين بالثقافة العراقية، على نحو، والموسيقى، على نحو خاص.
ويُجمع نقاد ومؤرخون للحياة الموسيقية العراقية، أن لم يستجب لدعوات حزبية، تتناسب مع العداء الرسمي لليهود، حين تولىّ إدارة لجنة، كانت بهدف محدد: طمس أي أثر موثّق يدل على تأثير اليهود العراقيين في موسيقى بلادهم، حتّى وإن كان ذلك تأثيراً رائداً وكبيراً، وعدّ ذلك "تشويهاً متعمداً" لثوابت ثقافية ووجدانية عبر حقيقة أن موسيقيين من يهود العراق، (أبرزهم الأخوين صالح وداود الكويتي) كانوا من بناة النغم العراقي المعاصر.
غادر بغداد بعد ذلك، واتخذ من عمّان مقراً جديداً، لتفعيل عمل المجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربي) الذي أداره بشير منذ تأسيسه عام 1974. وحتّى مع كل الخلاف العميق بشأنه، فالراحل منير بشير كان سفيراً من طراز رفيع لإنجازات الثقافة العراقية.
جوائز وأوسمة وتكريمات
منح بشير من الاوسمة خلال مسيرته: وسام الثقافة بدرجة القائد من فرنسا، وسام الاستحقاق المدني من الدرجة الأولى من ملك إسبانيا خوان كارلوس، وشاح زميل الجامعة موريسيا في إسبانيا، وسام الثقافة والفنون من بولونيا، وسام الاستقلال الأردني، وسام الثقافة من الدرجة الأولى من كوبا، وسام كوماندور مع شهادة (دكتوراه) فخرية من الحكومة الاٍيطالية.
كما نال الكثير من الجوائز العالمية منها: جائزة شارل كرو لأحسن أسطوانة موسيقية من فرنسا، جائزة دسك أكاديمي من فرنسا، شهادة سفير من جمعية الصداقة العراقية الإسبانية، وحصل على الميداليات الذهبية التالية: الميدالية الذهبية لبيكاسو، ميدالية شوبان من بولونيا، ميدالية ليست فرانس من هنغاريا، ميدالية بيلا بارتوك من هنغاريا، ميدالية فيلا لوبوسمن البرازيل، ميدالية تشايكوفسكي من الاتحاد السوفييتي، ومنح مفتاح مدينة يوكوهاما، وحاضر في جامعات، جنيف، أكسفورد، هامبورغ، كوبنهاغن، المعهد العالي للموسيقى في دمشق.










