TOP

جريدة المدى > عام > بمناسبة رحيله: زياد الرحباني والمسرح الغنائي

بمناسبة رحيله: زياد الرحباني والمسرح الغنائي

نشر في: 20 أغسطس, 2025: 12:01 ص

عبد الخالق كيطان
ضرورة المسرح الغنائي
يصحّ القول، وبدون تحفظ، أن المسرح الغنائي هو أقل الأنواع المسرحية تقديما على خشبات المسارح العربية. والسبب في ذلك ثقافي مثلما هو إنتاجي.
والمسرح الغنائي في حواضر العالم لا يكاد يخلو موسم منه. إنه تقليد ثابت في البرامج المسرحية السنوية. يشارك فيه كبار صناع المسرح، وتنتشر أغنياته وموسيقاه Soundtrack بعد العرض لتكون فنا خالصا آخر له عشاقه ومتابعيه. ويتشارك المسرح الغنائي مع المسرح الأوبرالي في خصال عديدة، مع أن المسرحين يقدمان انماطا فنية مختلفة.
تبدأ المشكلة عربيا من المرجعيات الثقافية للمسرح، إذ إنه يقدم على شكلين أساسيين: الترفيه، وهو ما تمثله المسرحيات الكوميدية على اختلاف مسمياتها… والمسرح الجاد على اختلاف مسمياته أيضا. وبالرغم من أن الترفيه هو هدف بحد ذاته للفنون عامة، إلا أنه في عالمنا العربي حشر في زاوية الإضحاك فقط. وبقي المسرح الجاد، وهذا اصطلاح فضفاض، مهتما بالتجريب والبحث عن حلول بصرية جديدة ناهيك عن قوة الأفكار فيه. الموسيقى في الحالتين كانت تكميلا للمبنى، وليست العنصر الأساس فيه.
والموسيقى عندنا تخضع لمشكلات ثقافية عديدة، وبالرغم من ان الجمهور، بالمجمل، يستمع إلى الموسيقى إلا أنها، أي الموسيقى بحد ذاتها، ظلت تتأرجح بين التحريم، التمويل والتسويق. هكذا يجد المنتج الفني نفسه في ورطة حقيقية إذا ما تصدى لهذا النوع من الأعمال. بالطبع لا يمكن مقارنة ذلك مطلقا بعواصم مثل باريس أو لندن، ولا مع مسارح نيويورك أو موسكو. الموسيقى هناك، والمسرح، عنصران لا يفترقان.
بعد هذا كله فإن المسرح الغنائي كان يطلّ، عربيا، في أوقات متفاوتة وبشكل خجول أحيانا. ولكن تجربة الأخوين رحباني، وتجربة زياد رحباني الخاصة، ظلت على الدوام نقطة إشعاع حضاري في هذا المجال.
ذكرى شخصية:
يطيب لي هنا ان استذكر واحدة من أعظم نتاجات الأخوين الرحباني في المسرحية الغنائية، وهي مسرحية ميس الريم. المسرحية قدمت منتصف السبعينيات في بيروت. وكان من عادة الأخوين رحباني تسجيل مسرحياتهم، بعد عرضها على الخشبة، في استوديو تلفزيوني. وهكذا وصلت هذه التحفة الفنية إلى الأجيال اللاحقة، وأنا منهم.
في صيف بغدادي لاهب، وكنت حينها أعدّ برنامجا للتلفزيون العراقي عن المسرح، فتشت في المكتبة الصورية للتلفزيون عن مسرحية يمكن عرضها كسهرة تلفزيونية. كان الأمر مستحيلا، والسبب في ندرة ما تضمه هذه المكتبة من مسرحيات من جهة، ومن جهة ثانية صلاحية ما يتوفر منها للعرض التلفزيوني، صلاحية فنية بالدرجة الأساس. وبعد بحث استمر لساعات عثرت على نسخة من مسرحية ميس الريم على شريط قديم ينبغي تحويله ليناسب العرض التلفزيوني، وهو أمر لم يكن صعبا، بل كان متعارفا عليه حينها.
شاهدت العرض كاملا. سجلت ملاحظاتي، وكان علي أن اختصر الكثير من أجل أن يكون العرض لساعة تلفزيونية واحدة أو ساعتين على سهرتين في اسبوعين.
تدور أحداث هذه المسرحية حول حكاية بسيطة بين عاشقين أجبرا على الفراق بسبب عداء قديم ومستمر بين عائلتيهما، وتجري الأحداث خلال سفر زيون، لعبتها الفنانة القديرة فيروز، إلى ضيعة كحلون لحضور حفل زفاف بنت خالتها.
وحتى يكتمل سيناريو العرض إتصلت بالأستاذ الفنان الكبير الراحل يوسف العاني ليكون ضيف البرنامج، والذي قدمه على ما أذكر الصديق الدكتور وليد شامل، ليتحدث عن المسرح الغنائي ومسرح الرحابنة بشكل خاص. وقد سعد أستاذنا العاني بالدعوة، خاصة وإنه كان قريبا من الرحابنة ومسرحهم في ستينيات القرن الماضي. وبالفعل تم تسجيل المحاورة، وبثت مع المسرحية من تلفزيون بغداد على جزأين. وحقق البرنامج نجاحا عند محبي المسرح الغنائي ومسرح الرحابنة على وجه الخصوص.
ماذا فعل زياد؟
في عرض مسرحية ميس الريم يدخل زياد الرحباني ملحنا لقطعتين وممثلا في دور بسيط. عبقرية زياد تجلت في لحن المقدمة الموسيقية للعمل. وهي المقدمة التي ظل زياد يقدمها منذ تاريخ عرض المسرحية وحتى وفاته في أواخر الشهر الماضي في بيروت، في حفلاته المختلفة.
سبق ذلك قيام زياد، الشاعر المشاكس، والموسيقى الموهوب حينها بمفاجئة والده عاصي الرحباني، بل والجمهور عامة، بلحن استثنائي لأغنية "سألوني الناس"، والتي كتبتها والدته السيدة فيروز، لتكون أول وآخر أغنية تكتبها، وثمة من يقول أن عاصي الرحباني هو من كتب هذه الأغنية، والتي غنتها فنالت إعجاب الجمهور في لبنان والعالم العربي، ويمكن القول أن هذه الأغنية مثلت المفتاح الحقيقي للتعاون الفني الوثيق بين السيدة فيروز وزياد.
هكذا تمت إحالة المقدمة الموسيقية للمسرحية إلى زياد، وكأنها إعلان مباشر وصريح عن الموهبة التي ستشغل الفضاء الفني، وخاصة في المسرح الغنائي والموسيقى. ولقد نجح زياد في مهمته، وحققت موسيقاه نجاحا لا يقل أبدا عن نجاح أغنيات المسرحية التسع (واحدة من ألحان زياد وهي حبّوا بعض) وغناء السيدة فيروز، بإستثناء أغنية واحدة هي يا مارق عالطواحين التي أداها الفنان نصري شمس الدين. جدير بالذكر أن السيناريو والحوار والموسيقى كلها من تأليف الأخوين رحباني بإستثناء ما ذكرنا.
استثمر زياد معارفه بجنون الجاز في المقدمة الموسيقية للمسرحية ومعرفته العميقة بالتراث اللبناني في اغنية "حبوا بعض". والحال إنه استطاع تقديم موهبته من خلال عمل كبير ومع مجموعة كبيرة من النجوم. وإذ افترق زياد عن فريق الرحابنة لاحقا، فإنه ظل وفيا لما تعلمه، وزاد عليه الكثير، خاصة النقد اللاذع والنكتة القاسية الجارحة، تلك التي تعبر عن واقع حال بلمسة يأس محببة.
قدم زياد، بعيدا عن العائلة، عدة مسرحيات: "بالنسبة لبكرى شو" عام 1978، "فيلم اميركي طويل" عام 1980، "شي فاشل" 1983، "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" عام 1983 و"لولا فسحة الأمل" عام 19994 حيث واصل عبر هذه الأعمال توجيه النقد السياسي والاجتماعي بلغة غاضبة وقريبة جدا من لغة الناس. بل إنه يكرر في لقاءاته التلفزيونية أن نقد الناس في الواقع أقسى وأشد مما يكتبه هو. وبالطبع ذلك يقود إلى أسلوبه الخاص الذي عرف به في المزج بين الموسيقى والمسرح والكوميديا السوداء دون أن يتخلى عن الشرط الجمالي.
واللافت، ختاما، هو وضوح النبرة الدرامية في مجمل أعمال زياد الموسيقية. ولو اخذت أغنية البوسطة مثلا فستجد أركان المسرح، أو بالأحرى العرض المسرحي، متوفرة بشكل واضح. شخصيات وزمان ومكان وحدث وعقد وتصاعد درامي الخ.. وكان من الذكاء أن تقدم السيدة فيروز الأغنية في حفل على المسرح مع فرقة تمثيلية راقصة، لا يستطيع من شاهدها أن يسقطها من ذاكرته. وأغنية البوسطة هي من كلمات وألحان زياد الرحباني. وتقول كلماتها:
موعود بعيونِك أنا موعود
وشو قطعت كرمالُن ضَيَع وجرود
إنتِ عيونِك سود
ومَنّك عارفة شو بيعملوا فيّي العيون السّود
عَ هدير البوسطة الْـ كانت ناقلتنا
من ضيعة حملايا على ضيعة تنّورين
تذكّرتك يا عليا، وتذكّرت عيونك
ويخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين
نحنا كنّا طالعين بهالشَّوب وفطسانين
واحد عم ياكل خسّ وواحد عم ياكل تين
وفي واحد هوّي ومرتو
وْلُو شو بشعة مرتو
نيّالُن ما أفضى بالُن ركّاب تنّورين
مش عارفين عيونِك يا عليا شو حلوين
نحن كنّا طالعين، طالعين ومش دافعين
ساعة نهدّيلو الباب، وساعة نهدّي الرّكّاب
وهيدا اللّي هوّي ومرتو
عبّق وداخت مرتو
وحياتِك كان بيتركها تطلع وَحْدَا عَ تنّورين
لو بيشوف عيونك يا عليا شو حلوين
يا معلّم
لو بتسكّر هالشّباك يا معلّم
الهوا يا معلّم
رح يسفقنا الهوا يا معلّم

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram