طالب عبد العزيز
إذا كان ت.أس. اليوت يقيسُ حياته بعدد ملاعق القهوة، ولم يتسنَ له أكل خوخة، فقد كنتُ وحتى وقت قريب؛ أقيسُ حياتي بمهماز المواسم، لست أنا حسب، أبي وأمّي وأهلي كلهم، كانوا هكذا؛ هم لا يعرفون عن الوقت أكثر من تشكّلاته وتقلّباته في الأقمار، والأرَضِين، والحرث، والغرس، والخراف، وهي لعمري أجملُ الروزنامات على الارض، لا يعلقها أحدٌ في حائط، ولا يختزنها معصمٌ، ولا يُخشى عليها من الفقد والضياع، فهي مدونةٌ في الروح، محفوظةٌ في القلوب، باردة وحارة فيها، صادقةٌ وأمينةٌ عليها.
يُكرهونَ أنفسَهم على مزاج الأشهر القمرية المتقلب، وغير المنتظم في حياتهم، وكثيراً ما تقع الأشهر تلك خارج أسمائها ومعانيها، فالناس في الثغور مازالوا يتقاتلون في المحرّم، الذي حرّمتْ العربُ القتالَ فيه، ويقولون ربيع الأول والثاني فيما الشمسُ تحرق ظهورَهم، وأرضهم يابسة وبوار، ويقولون رمضان لكنَّ القرَّ ملتفٌّ، والزمهريرَ متوطنٌ في مواقدهم، ويقولون جمادى الأول والثانية، حيث تسميتها كانت قد وقعت في الشتاء، لكنها لم تبق فيه، وهكذا سيكون رجب الذي كانت (ترّجبُ) فيه الرماح من الاسنة؛ أيْ تنزع، ومثل هذه وتلك سيكون شعبان من تشعبهم في الاودية، ورمضان من الحر ووقع الشمس، وشوّال من شولان النوق، أيْ رفع أذنابها، وجفاف لبنها.. وبعدُ فقد نفضوا أيديهم من أيامهم هذه؛ واخترعوا لأنفسهم توقيتات شديدة التعلق بحياتهم، محمولةً على ما هم فيه وعليه من ماء ومطر ومباهج وأوجاع.
أمسِ، وفي بيتٍ من بيوت الاهل جرى الحديثُ في هذه مجرى الدموع، إذْ كلٌّ تذكَّرَ واقعةً، كانت له قبل صعود الملح، وغيض الماء، فنحن في العشر الاواخر من آب، حيث يفتحُ الشتاءُ أوّل أبوابه، لكنَّ حسرةً أخذت أبا غسَّان، بعيداً، وهو أشهر المزارعين في عائلتنا، وحين كشف عن سرَّ حسرته تلك قال: في العشر هذه من كل عام، أكونُ قد هيأتُ الأرضَ لزراعة القّثاء، ومثلها ستكون الباقلاء بثلاث أو بأربع أوراق، فزراعتها تسبق زراعة القثاء بأيام قليلة، أمّا الطماطم (الصِّفْري) فهي بعد ذلك بعشرين يوماً، وهكذا، أخذنا بحديث الأيام والشهور والشموس والامطار، يوم كانت الأرض غير الأرض والسماء بأبهى عطاياها، لكنَّ مفردة (صِفّريٍْ) استوقفت أحدَ أحفادنا، فسأل ما هو صفري؟ وهنا توجَّب عليَّ أنْ أقول بأنَّه الخريف، والتسمية جاءت من الصُّفرة، والعلة التي تصيب الأجساد والأرض معاً، بسبب إنتقالنا من الصيف الى الخريف، الذي سنكون فيه بعد أيام قليلة، وكنتُ سمعت أبي يحّذرُ من أنْ يجرحَ أحدُنا فيه، لأستعصاء الجُرح فيه على الالتئام والشفاء.
لم يكتف الاهلُ بعلاقتهم مع الأرض والزروع بوجودهم فيها أحياءً، إنّما ذهبوا بها الى قبورهم، فقد رأيتهم؛ وبعد خروجه من مغتسله، وهم يضعون سعفةً خضراء الى جوار أبي في تابوته، ثم أنَّهم أنبتوا على قبره سعفتين، واحدةً عند رأسه، وثانيةً عند قدميه، وكنا نستبدلُ السعفتين بأخضر منها كلّما صرنا الى زيارته؛ في رمضائه التي هناك. يقول صاحبُ(العمى) سارماغو: بأنَّ جدَّه؛ وقبل أن يموت كان قد ودّعَ أهله وأصدقاءه وأشجاره والطبيعة. . لأنَّه أراد أنْ يكون حاضراً ومشعِّاً عند مجيء الموت، لهذا عانق الأشجار التي تحتفظُ بصفحات من كتاب حياته، هو الذي قال: سانظر بالصمت الذي تثقِّبُ فيه النباتاتُ الارضَ.
أحزنني أنَّ ابني أحمدَ عاد خِلواً من رحلة البحر قبل أسبوع، ولم يصطد سمكة واحدةً، فقد عصفت الريحُ بمركبهم، وتداكك الموجُ عاليا.، يقول بأنَّ مذيعة نشرةَ الطقس أضلتهم، وإنَّ الرياحَ الهوجَ جاءت في غير موسمها، قلتُ لو قفّيتم أثرَ الأجداد المنبئين، من متتبعي النجوم، ومحصي الرياح، وسدنة الأشرعة، لو تصفحتم خرائط الأولياء المبحرين، لو قرأتم الروزنامات المعلقة في صدور هؤلاء. . لكانت بضاعتكم غير مزجاة الى الحدِّ هذا يا بني.










