د. سعد عزيز عبد الصاحب
تستند الراحلة اقبال نعيم (1957 ـ 2025) لارث بروليتاري عمالي ضارب الجذور في شواغلها ونشئتها الاجتماعية والفنية وفلسفتها الحياتية فمنذ بواكيرها الاولى مع فرقتي المسرح الفني الحديث والمسرح الشعبي كانت تحمل معولها لتحطم صيغا من التقليدية والكليشيهية والنمطية في فن الممثل واتخذت من اساتذتها سامي عبد الحميد وقاسم محمد وجعفر السعدي وعوني كرومي وعزيز خيون شيوخ طريقة تغذت من ضفاف واقعيتهم وواقعيتهم الخيالية وقربهم من الجماهير والطريقة العراقية في تلاوة المسرح مبنى وشكلا، ومعنى في استنطاق مشكلات وعلل مجتمعه العضوية واحتجاج ورفض نساءه المتنورات للتقاليد البالية والاعراف والسنن التي اطاحت بحرية المراة وخنقت صوتها داخل مجتمعها.. حريتها في الاختيار.. حريتها في العمل.. وفي الوثوب نحو المستقبل، فكان المسرح قبلة اقبال وصلاتها، فشكلت مع شابات اخريات رقما صعبا في معادلة الحداثة المسرحية العراقية في ضوء امتلاكها للصوت الواضح والقوام الممشوق والحضور المائز وقبل ذلك كله الوعي والرغبة الجامحة في التعلم والدرس فقرنت ما حباها الله من موهبة بالعلم والمعرفة فتحصلت على التحصيل العلمي العال في حقل المسرح واطروحتها المائزة في البحث عن مصطلح الغروتسك في فن الممثل وبموازاة ذلك الحرث النظري الغزير كانت البروفة والتمرين المسرحي هو ميدانها وعرينها هو مكان انفعالها وبوحها فرحها وغضبها احتجاجها وجنونها، اضحت البروفة هي حيز حوارها مع الذات والاخر فولدت لنا منها عروضا وليال مسرحية خالدة في الوجدان وضاربة في النفس كترنيمة الكرسي الهزاز والرهن ومطر يمه وتقاسيم على نغم النوى والخادمات والحريم وهاملت واهل السطوح والمشاكس ومذكرات رجل ميت والظلال واعتذر استاذي لم اقصد ذلك وانظر وجه الماء وسيدرا وهيروسترات والف امنية وامنية وحفلة الماس ونساء لوركا وغيرها العشرات من تلك الوقفات والامثولات المسرحية التي ندت لديها عن اشكال تمثيلية ساحرة ومتغيرة ولاعبة ناهيك عن شواغلها الاخراجية في مسرح الطفل الذي وجدت فيه مساحة للعفوية والتلقائية والطهر والبراءة وتعويض عن العفن والازدواجية والاستلاب والنكران في مسرح الكبار وجدت في مسرح الطفل الصدق الذي افتقدته في الحياة حيث اعلنت عن نفسها مخرجة لمسرحيات الريشة الذهبية وفي انتظار الطيور والدمية المفقودة وثامن ايام الاسبوع والامنيات الذهبية وغيرها، ولا يمكن اغفال اداءها الاداري المتقن والنزيه الذي يعد نبراسا وايقونة لشرفية وصدق الاداء والالتزام في العمل المهني وهي في استعانتها بالخبرات الادارية والعلمية لم تئلو جهدا في استقدام خيرة الاصوات المسرحية في لجانها الفنية والمناصب الادارية في دائرة السينما والمسرح، ولم تتذرع يوما بعدم وجود اموال في خزينتها اذ اقامت اياما مسرحية عراقية واستقدمت عروضا محلية وعربية لافتة بمبلغ لا يزيد عن خمس وخمسين مليون دينار فقط انفقت كتذاكر طيران وسكن وضيافة واطعام للوفود، وبعثت البعوث المسرحية الى المحافظات بعروض الفرقة الوطنية للتمثيل فقدمنا مسرحية ثمان شهود من بلادي تاليف واخراج ماجد درندش في تسع محافظات عراقية وبايفاد مجز لفنانيها، وبورت وادخرت المال في خزينة الدائرة من خلال واردات العروض الشعبية الجماهيرية ولياليها المستمرة التي اضاءت ليل بغداد بجمهوره الواسع بعروض اخرجها طلال هادي وعبد علي كعيد وسنان العزاوي فتركت لنا فائضا ماليا قدره 450 مليون دينار عراقي، واستضفت شخصيا في منتدى المسرح عندما كنت مديرا له عروضا مسرحية من كركوك والديوانية وديالى بأستضافة كاملة على عاتق المنتدى وباشراف مباشر من الراحلة اقبال نعيم لثلاث ليال متتالية، وامتلئت في ادارتها صالات العروض المسرحية في مسرحي الوطني والرافدين ومنتدى المسرح بعروض الموسم المسرحي في فترة شح فيها المال الحكومي والغيت السلفة التشغيلية وقصرت فيها اليد، الا انها كانت مصرة على انجاز عروض الموسم المسرحي لانها كانت تعتقد بأن ديمومة الموسم المسرحي هي الاساس وحجر الزاوية في تطور المسرح العراقي المطرد، اخيرا لم يحصل هناك اتفاق عراقي على نعي وتابين فنان او فنانة.. اتفاق شعبي وفني وسياسي مثلما حصل مع الراحلة الدكتورة اقبال نعيم حيث ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بمنشورات الحداد ورسائل النعي والرثاء متشحة اطرها بالسواد وعبارات الحزن والاسى على رحيل سنديانة فنية قبل اوانها اثرت في وعينا الجمعي وتركت بصمة لا تمحى في ذاكرة المسرح العراقي المعاصر واجياله.
في رحيل طفولة المسرح وبراءته.. اقبال نعيم

نشر في: 24 أغسطس, 2025: 12:02 ص









