ستار كاووش
الابداع الحقيقي هو أن تضيف شيئاً جديداً لما هو موجود سابقاً، أن تفتح نافذة مختلفة لتجعل الآخرين يطلّونَ منها على جانب من الحياة بشكل مختلف، أو تقوم بتسليط الضوء على زاوية ربما يعرفها الجميع، مع ذلك تجعلنا ننظر اليها بطريقة مبتكرة. الأفكار الشخصية الصغيرة هي التي تمنح الإبداع خصوصية، ونحن لا نحتاج دائماً لأفكار كبيرة كي ننتج ابداعاً مهماً، بل يمكننا أن نستلهم ذلك من كل الأشياء التي حولنا، على أن نضيف لها لمسة شخصية. فلأجل أن ننجح مثلاً في عرض مسرحيات شكسبير، علينا أن نمنحها أجنحة جديدة تطير بها، نُحاول أن نُلبسها ملابس مبتكرة ونجعل المتفرجين يضيفون تأويلاتهم للعرض أيضاً. فما فائدة أن نقدم النص ذاته الذي يمكننا قراءته والتمتع به دون حاجتنا الى مخرج وممثلين.
من هنا إنطلق المخرج الهولندي جاك نيبورخ وهو يقدم عرضه الجديد على المسرح الصيفي المتخصص بأعمال شكسبير وسط غابة ديفر في هولندا، حيث إختار عملاً عظيماً وربما شائعاً هو هاملت ليكون الحدث الثقافي المهم خلال هذا الصيف، وهي المرة الثالثة الذي يقدم فيها هاملت على هذا المسرح خلال الثمانين سنة الماضية، والتي هي عمر هذا المسرح العريق. فما هو الجديد هنا وكيف حوَّلَ فريق العمل خشبة المسرح إلى ابتكار جمالي وحملَ الجمهور الى أماكن غير متوقعة، وربما صادمة من كثرة جرأتها، وقد وصل الحد إلى إعتراضات كثيرة وتساؤلات بدت على وجوه الحاضرين الذين مالبثوا الانسجام مع العرض وبانَ إعجابهم أكثر بمرور الدقائق، ووصل الأمر الى قناعة كاملة -وهذا ما شعرتُ به شخصياً أيضاً- بأن العرض الذي شاهدناه هو الوحيد الذي لم نتوقعه، مع ذلك أحببناه وانسجمنا معه بشكل لا يُصدق.
أخذ الجمهور مكانه في جهتين متقابلتين يتوسطهما مكان العرض الذي بدا مفتوحاً على كل الاتجاهات، والشمس مازالت ترسل أشعتها من خلف الأشجار، والجمهور يتلفت هنا وهناك بإنتظار أية حركة، وقد بدأ بعضهم بتهيئة أقداح النبيذ الذي إمتزجت رائحته مع رائحة الأشجار وعبق أشعة الصيف، وعطر الغابة الأخضر الذي ليس له مثيل.
إبتدأ العرض الذي نعرف كلنا أحداثه، لكن المفاجئة هي أن المخرج أراد أن يُرينا عرضاً غير متوقعاً، حيث إختار امرأة للقيام بدور هاملت، نعم لقد تحول هاملت هنا إلى امرأة! وقد مثلتْ الدور الممثلة الهولندية إنغا فايرز وهنا بدأت غرابة العرض المسرحي غير المتوقع. يالها من جرأة ويالهُ من تغيير لأهم شخصية في المسرحية، بل واحدة من أعظم الشخصيات التي كتبها شكسبير، وما أن حاولنا تجاوز هذه الهزة الجمالية التي وضعنا فيها المخرج، حتى فوجئنا بظهور أوفيليا حبيبة هاملت، والتي قرر المخرج أن يجعلها فتاة دميمة جداً، بدلاً من تلك الجميلة التي إستلهمَ جمالها وبراءتها الكثير من الشعراء والرسامين - أنا أيضاً رسمت لها لوحة أسميتها غرق أوفيليا- وصارت مثالاً للحبيبة الرقيقة الحائرة. وفوق كل هذا جعلها المخرج تقوم بحركات تجعها أكثر قبحاً. وهكذا لم نكد نتجاوز احدى مفاجئات العرض، حتى يقذف المخرج نحونا مفاجئة جديدة، لتكون النتيجة عرضاً جديداً لم نتوقعه ولم نفكر به ولم نتصوره أبداً.
المفردة الأساسية في هذا العرض كانت عبارة عن مكعب خشبي مربع الشكل يشبة الطاولة، ومن خلال هذه المفردة تم بناء كل العرض تقريبا، حيث تم استعمالها كطاولة ومكاناً للجلوس وساحة للصراعات ومكاناً للقتل وسريراً للنوم وغيرها الكثير من الاستعمالات المختلفة. الكوميديا كانت هي البطل الخفي للمسرحية وبشكل غير متوقع، حيث أُدخِلَتْ كلمات وتعبيرات هولندية من وقتنا الحاضر، والاهم من كل ذلك هو تواصل الممثلين مع الجمهور طوال العرض بكلمات وتعابير وإيماءات، وقد تعمدوا في الكثير من الحالات الى التوقف وكأنهم قد نسوا الحوار، ليأخذوا النص المسرحي من الملقن ويقرؤون بعض الجمل. ومن التغييرات التي أضافها المخرج هو استخدام الممثلين للمسدسات في المبارزات بدلاً من السيوف، كذلك استعمال عربات المستشفيات أو أجهزة المعدات الطبية.
إضافة الى خروج الممثلين عن النص الأصلي ومخاطبة الجمهور، فقد أخذ بعض الممثلين أماكنهم وسطنا نحن المتفرجين، وكان أحدهم لا يبعد عني سوى بضع كراسي والذي سألته أن يلتفت نحوي كي أصوره، وقد إستجاب لذلك بمرح مصحوب بإبتسامة. الفضاء هنا هو الذي لعب الدور الرئيسي وظلام الغابة الذي بدأ يتغلغل شيئاً فشيئاً بدا كأنه ممثلاً يتحفز للقيام بمؤامرة، لم تكتمل بسبب بقع الضوء التي تنتشر هنا وهناك وتتمرأى على وجوه الممثلين، حيث منحتْ العرض روحاً وقوة وتأثيراً مذهلاً.
لم يكتفِ الممثلين بتغيير بعض الكلمات الى الأقوال الهولندية الشائعة والدعابات أو حتى لغة الشارع، بل وصل الأمر الى أن بائعي السجق الذين كان يُفترض دخولهم الى الصالة في وقت الاستراحة، قد فاجأوا الممثلين قبل توقفهم بلحظات وانطلقوا داخل المسرح وهم ينادون بـأصوات عالية (سجق…سجق…سجق…سجق) ليغط الجمهور بالضحك وصار الجميع جزء من العرض الذي توقف معلناً عن بدء الاستراحة بين الفصلين.
وبما أني قد استأجرت بيتاً خشبياً على طرف الغابة المحاذي للمسرح ولمدة يومين، حيث لا يبعد عن مكان العرض سوى خمس دقائق مشياً، لذا حين صحوت في اليوم التالي، حملت حقيبة الظهر الصغيرة وذهبت للتسوق من القرية المجاورة، وما إقتربت من المتجر حتى شاهدت امرأة تقترب وتوقف دراجتها الهوائية قرب المتجر، فخُيل لي بأني قد رأيتها سابقاً، أقتربتُ منها أكثر فإذا بها الممثلة إيكا بورن التي مثلت دور أوفيليا، جاءت لشراء الأكل لها وللممثلين الذي يقضون اياماً وسط مسرح الغابة، ولم تبدو قبيحة كما شاهدتها في العرض بل جميلة ورائعة ومنشرحة، لكن كان للمخرج رأياً آخر طبعاً. لوحتُ لأوفيليا بيدي وحيَّيتُها على جمالها في المسرح والحياة، ومضى كل منا يتبضع حاجته من الطعام.










