د.سهام يوسف علي
تشير الأدبيات الاقتصادية والسياسية إلى أن الديمقراطية لا تزدهر بمعزل عن قاعدة اقتصادية ومؤسسية قوية، فهي ليست مجرد تنظيم انتخابات دورية، بل نظام متكامل يقوم على اقتصاد مستقل ومؤسسات فعالة وقادرة على المساءلة. في الدول الريعية، حيث تشكل الموارد الطبيعية الجزء الأكبر من الإيرادات العامة، يغيب الحافز لبناء مؤسسات مستقلة أو تنويع الاقتصاد، مما يحوِّل الانتخابات إلى آلية لإعادة إنتاج النخب الحاكمة بدلاً من أن تكون وسيلة للتغيير والإصلاح.
في الديمقراطيات العريقة مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة قد تعيد انتخاب نفس الأحزاب لعدة دورات، إلا أن ذلك يتم ضمن مؤسسات قوية وآليات شفافة تحاسب الحكومات وتمنع الفساد البنيوي. أما في العراق، فالمعادلة مختلفة تمامًا، الانتخابات لا تؤدي إلى تجديد النخب أو تغيير السياسات، بل تتحول إلى وسيلة لإعادة تدوير نفس الوجوه والطبقة السياسية، عبر شبكة معقدة من المحاصصة والزبائنية والاعتماد على الريع النفطي مع تفشي الفساد وضعف الشفافية وغياب المؤسسات الرادعة مثل القضاء المستقل والإعلام القوي، كما هو الحال في الديمقراطيات الراسخة.. وهكذا تصبح العملية الانتخابية شكلاً بلا مضمون، دائرة مغلقة تُبقي العراق في صدارة مؤشرات الفساد، وتحول دون أي إصلاح اقتصادي أو سياسي حقيقي.
تقدم نظرية البحث عن الريع تفسيراً واضحاً لهذه المعضلة، فالنخب في الدول الريعية تركز جهودها على السيطرة على الموارد الطبيعية وتوزيعها بما يضمن بقاءها في السلطة، بدلاً من إنتاج الثروة أو تنمية الاقتصاد. وهكذا تتحول السياسة إلى وسيلة للوصول إلى الريع، والانتخابات إلى ساحة لتوزيع المنافع وليس للتنافس على البرامج. وفي ظل غياب الإصلاح الاقتصادي، لا يترك المجال لبروز قوى جديدة أو بدائل حقيقية، بل يتم تعزيز نفوذ الوجوه نفسها التي تستثمر في الفساد والمحاصصة بدلاً من الإنتاج والتنمية.
لذلك، نجد أن الدول التي أجرت انتخابات دون إصلاح اقتصادي مسبق غالباً ما وقعت في حلقة مفرغة تبدأ بانتخاب نخب فاسدة تعزز الفساد، مما يؤدي إلى تدهور اقتصادي واجتماعي يولد إحباطاً شعبياً قد يدفع إما إلى العزوف عن الانتخابات أو إلى الاحتجاج، الذي قد تقوم النخب الحاكمة بقمعه أو توجيهه لصالحها عبر خطاب طائفي أو شعبوي، لتعود وتُعيد إنتاج نفسها عبر انتخابات جديدة.فالعلاقة بين الإصلاح الاقتصادي والسياسي علاقة تبادلية لا انفصام فيها، فالديمقراطية الحقيقية لا تقتصر على صناديق الاقتراع والتعددية الحزبية، بل تقوم على مؤسسات قوية وشفافة وقادرة على توزيع الثروة بعدالة وتوفير الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية. وعندما تجرى الانتخابات في غياب هذه الأسس، فإنها تصبح أداة في يد القوى التقليدية والزبائنية التي تستخدم نفوذها المالي والاجتماعي للاستمرار في الهيمنة على السلطة والثروة.
على صعيد التطبيق، تقدم الحالة العراقية نموذجاً مأسوياً لتكامل نظري فريد، حيث تتفاعل نظريات الاختيار العام واقتصاديات الريع والاعتماد على المسار في حلقة مفرغة. فمن خلال نظرية الاختيار العام، تتحول الانتخابات إلى سوق للمصالح حيث يُستخدم المال العام المستمد من اقتصاد ريعي قائم على النفط كعملة لشراء الولاءات السياسية والشعبية، مما يعزز ظاهرة البحث عن الريع بدلاً من خلق القيمة. وقد أدى هذا إلى إعادة إنتاج النخب ذاتها منذ عام 2003 تحت أسماء وتحالفات متغيرة، مع الحفاظ على هياكل المصالح ذاتها، وهو ما تؤكده نظرية الاعتماد على المسار التي تظهر كيف يصبح النظام الفاسد مغلقاً على نفسه ومقاوماً لأي إصلاح حقيقي بسبب تراكم القوة والثروة في أيدي فئة قليلة تتحكم بمفاصل الدولة والمؤسسات. وهكذا يصبح غياب الإصلاح الاقتصادي والمؤسسي ليس مجرد تقصير، بل آلية متعمدة لضمان استمرار الهيمنة، مما يحول العملية الانتخابية من أداة للتغيير إلى أدة لتجديد شرعية الفساد نفسه.
منذ عام 2006، لم تؤد المؤسسات المنتخبة في العراق إلى تعزيز الشفافية أو تحسين كفاءة الإدارة الاقتصادية، بل زاد الفساد وتعمقت المحاصصة. وقد يكون العراق الدولة الوحيدة، التي لا تقدم حسابات ختامية، مما يعكس استمرار غياب المساءلة و زيادة فرص الفساد، ويجعل الإدارة الاقتصادية رهينة للريع والنفوذ السياسي. في هذه البيئة، تصبح الانتخابات آلية لإعادة إنتاج نفس النخب بدلاً من أن تكون فرصة للتغيير والإصلاح. هكذا جرت الانتخابات العراقية خمسة مرات متعاقبة، لكن النتيجة كانت تكرار الوجوه نفسها واستمرار العراق في صدارة مؤشرات الفساد العالمية. ليست المشكلة في تكرار النخب بحد ذاته، بل في تكرارها مع تفشي الفساد وضعف الشفافية وغياب المؤسسات الرادعة مثل القضاء المستقل والإعلام القوي، كما هو الحال في الديمقراطيات الراسخة.
وهكذا تتحول الانتخابات إلى سوق للمصالح، حيث تُشترى الأصوات وتُستأجر الذمم، وتُقام التحالفات على أساس تقاسم المغانم وليس على أساس البرامج والإصلاحات. وفي ظل غياب إصلاح اقتصادي حقيقي، تظل الثروة متكدسة في أيدي قلة، بينما تُستخدم آليات الدولة لتعزيز هذا التكدس عبر المناقصات المشبوهة والاحتكارات والهدر المالي. والأخطر من ذلك أن هذه النخب تعمل على إجهاض أية محاولة للإصلاح الاقتصادي الحقيقي، لأن مصلحتها تكمن في استمرار النظام الاقتصادي المشوه الذي يغذي نفوذها. فالإصلاح الاقتصادي يعني محاسبة وتقويضاً لشبكات المصالح وفتح المجال أمام المنافسة الشريفة وتوزيعاً أكثر عدالة للثروة، وهذا كله يمثل تهديداً وجودياً للنخب الفاسدة.
ولكسر هذه الحلقة المفرغة، لا بد من مقاربة مزدوجة تجمع بين الإصلاح الاقتصادي وبناء المؤسسات، تشمل تنويع الاقتصاد عبر تطوير الزراعة والصناعة والقطاع الخاص لتقليل الاعتماد على النفط، وإصلاح النظام الضريبي بما يعزز الشفافية ويجعل الحكومة خاضعة للمساءلة أمام دافعي الضرائب، وتعزيز استقلالية القضاء وهيئات النزاهة لضمان رقابة فعالة على النخب السياسية، وإطلاق سياسات اجتماعية عادلة تعالج الفقر والبطالة وتعزز الثقة بين المواطن والدولة، وتمكين المجتمع المدني والإعلام ليكونا أدوات فعالة في فضح الفساد ومراقبة الأداء الحكومي.











جميع التعليقات 1
دهاشم محمد عبدالله
منذ 3 شهور
مقالة علمية متكاملة و تحليل يستند على العقل والمنطق ... تحياتنا للعقل الكبير الدكتورة سهام يوسف ...