TOP

جريدة المدى > عام > الكولابسولوجي: علم التنبؤ بانهيار المجتمعات

الكولابسولوجي: علم التنبؤ بانهيار المجتمعات

نشر في: 27 أغسطس, 2025: 12:44 ص

تِمْ آدامز*
ترجمة: لطفية الدليمي
ثمّة علمٌ حديث بات يتشكّلُ على نحو حثيث في السنوات الأخيرة، يدعى علم التنبؤ بانهيار المجتمعات Collapsology.يهدف هذا العلم، ومن خلال دراسة التاريخ وتوظيفه لتقنيات الرياضيات المعقدة، إلى الكشف عن أنّ هناك إتجاهات دورية Cyclic في سرديات الأمل والفشل البشري. أو لنضع العبارة في صياغة أكثر دقّة: أنّ هناك إتجاهات دورية في نشوء المجتمعات وانهيارها.
منذُ أن وُجِدت المجتمعاتُ البشريةُ المعقدة، كان هناك من يتنبأ بانهيارها الوشيك. في السنوات الأخيرة أصبح علم التنبؤ بنهاية العالم أكثر علمية بكثير بعد قدرته المتعاظمة على توظيف البيانات الضخمة Big Data. بيتر تورتشين Peter Turchin هو أحد أبرز علماء التنبّؤ بانهيار المجتمعات. تدرّب تورتشين في نطاق علم الأحياء مستخدماً النماذج الإحصائية لفحص شبكات العلاقات بين الحيوانات المفترسة والفرائس. ومع ذلك فقد حصل في تسعينيات القرن العشرين، وبعد أن شهد بنفسه التفكك المفاجئ للاتحاد السوفييتي الذي كان والده منفياً منه، أن وجّه تورتشين عقله التحليلي نحو مجموعة مختلفة من الأسئلة. انطلق تورتشين لإكتشاف الأنماط الإحصائية في الطوفان الهائل من البيانات التاريخية التي قد تتنبأ بعدم الإستقرار المستقبلي في المجتمعات. جاء إلى مهنته في وقت مناسب. يبدو أنّ تورتشين قد دلف إلى هذا الحقل المعرفي الجديد في الوقت المناسب؛ إذ بات بعد سنوات قليلة المثابة الشاخصة فيه وأحد اكابر علمائه ذوي السمعة العالمية.
يُطلق تورتشين على مقاربته التاريخية القائمة على البيانات الكبيرة اسم "الديناميكية الحيوية Cliodynamics". في سلسلة كتبه: "الحرب والسلام والحربWar and Peace and War " (2006) و"عصور الخلاف the Ages of Discord" (2016) - استخدم تورتشين مجموعات بياناته في محاولة لتحديد الأساس الذي تستند إليه جميع الحضارات الإنسانية في عصر المدن والدول في بناء آليات تدميرها الخاصة. وهو لا يسعى فقط إلى إظهار أن الرياضيات المعقدة قد تُطلق العنان لتلك القوى المُعرقلة؛ بل يسعى أيضاً إلى توضيح كيف يُمكن أن تُساعد في تجنّبها وكبح مفاعيلها لو شئنا.
ردّاً على ذلك، وفي مسعى معاكس لمقاربة تورتشين، مال العديد من المؤرخين المُتشبثين بفكرة أن تخصّصهم فنٌّ لا علم، إلى الإستخفاف بفكرة أنّ عمل حياتهم قد يُفهَمُ بشكل أفضل من خلال سلسلة من المعادلات المعقدة. يجادلُ هؤلاء ببساطة بأنّ هناك عدداً كبيراً للغاية من المتغيّرات التي لا تُفسّر الأزمات والثورات والحروب، وحتى التحوّلات السياسية اليومية في المجتمع. يُعدُّ كتاب تورتشين المعنون " عصر النهاية: النُخب، والنُخب المضادة، ومسار التفكّك السياسي End Times: Elites, Counter Elites and the Path of Political Disintegration"، المنشور عام 2023 عن دار نشر بنغوين، أحدث محاولة لتورتشين في تعضيد مقاربته التاريخية (الكليوديناميكية)، وهي محاولة مُقنعة إلى حد ما في المسعى لتحدّي الإجماع المضاد له من جانب المؤرّخين الكلاسيكيين.
يكمن جزء من سلطة مقاربة تورتشين التاريخية في النمو الهائل لمجموعات بياناته. في عام ٢٠١١ أسس تورتشين، الأستاذ بجامعة كونيتيكت ورئيس مركز علوم التعقيد Complexity sciences في فيينا، مشروعاً يُسمى "سيشات Seshat" (المُسمّى تيمناً بإلهة الأرشيف المصرية). يضمُّ مشروع "سيشات" عشرات الخبراء المتعاونين - من علماء أنثروبولوجيا وعلماء آثار ومؤرخين - في بناء أكبر مجموعة بيانات في العالم حول ازدهار المجتمعات وزوالها، من صعيد مصر إلى مانهاتن السفلى في نيويورك. يؤكّد تورتشين دوماً أنّ جميع النتائج هي حتماً عملٌ قيد التطوير، ويستنتج من هذه النتائج بعض الاتجاهات الدورية في هذه الرواية المُجمّعة عن الأمل البشري والفشل البشري معاً.
النمط الأكثر شيوعاً الذي يطرحه تورتشين هو "تناوب مراحل التكامل والتفكك المجتمعي التي تستمر لنحو قرن من الزمان"، وتكتسب تنبؤاته أهمية خاصة لأنّ المجتمعات الغربية، وبخاصة أمريكا كما يشير هو، قريبةٌ جداً من نهاية مرحلة التفكك الأخيرة، ممّا يزيد من احتمالية نشوب حرب أهلية أو انهيار هيكلي محتمل. يحاول نموذج تورتشين ترجيح عوامل معينة للتنبؤ بهذا الإنهيار الإجتماعي، من أهمها: التفاوت المتسارع في الثروة والأجور، والإفراطُ في إنتاج النخب الواعدة - أبناء العائلات الثرية، والخريجين ذوي الشهادات العليا، والمعلقين الاجتماعيين المحبطين-، والنمو غير المنضبط في الدّيْن العام. يشير تورتشين إلى حقيقة أنّ هذه العوامل في الولايات المتحدة - وبالتبعية في المملكة المتحدة - بدأت "تتخذ منعطفاً ينذر بالسوء في سبعينيات القرن الماضي... وتشير البيانات إلى السنوات التي تلت عام 2020، حيث كان من المتوقع أن يؤدي تضافر هذه الإتجاهات إلى تفاقم عدم الاستقرار السياسي".
على الرغم من أنّ منهجية التوصّل إلى مثل هذه الاستنتاجات قد تكون معقدة وتنبع من دراسة أزمة أواخر العصور الوسطى في فرنسا وتمرد تايبنغ في الصين والحرب الأهلية الأمريكية وجميع المراحل التي تقع بينهما؛ إلا أن القوى المزعزعة للإستقرار التي يصفها تورتشين غالباً ما تبدو واضحة للعيان، وقد تستشعرُ معظمها من قراءة صحيفة هذا الصباح. يجادل تورتشين بأنّ القوى الدافعة للإتجاهات السلبية في جميع المجتمعات ذات محرّكين على نطاق واسع: المحرّك الأوّل هو وجود "مضخة ثروة Wealth Pump" فاسدة، والتي، بعد سنوات من سياسات توزيع الثروة، تأخذ من الفقراء وتعطي للأغنياء!!!. في عام ١٩٨٣ كان هناك ٦٦ ألف أسرة تبلغ قيمة ما تتملّكه كل منها ١٠ ملايين دولار على الأقل في الولايات المتحدة. وبحلول عام ٢٠١٩ ارتفع هذا العدد من حيث القيمة المعدلة للتضخم إلى ٦٩٣ ألف أسرة. لكن بينما زادت أعداد هؤلاء الأثرياء الفاحشين انخفض دخل وثروة المواطن الأمريكي العادي. تزامن هذا الاتجاه مع المحرّك الرئيسي الثاني المزعزع للاستقرار، وهو ما يُعرّفه تورتشين بأنه "الإفراط في إنتاج النخب Overproduction of Elites"، حيث يتنافس عدد متزايد من الناس على هيكل محدود ومتزايد الفساد من الإمتيازات والسلطة. يعرض تورتشين أربعة فصائل يتفاقم بينها هذا التنافس على المكانة والمال بشكل دائم: العسكرية والمالية والبيروقراطية والأيديولوجية. ومع تدهور المجتمعات تفقد المعادلة المتوازنة لهذه الفصائل توازنها بشكل كبير؛ إذ تسعى قوى رأس المال إلى تدمير أصوات الأيديولوجية، وتُسلح "نخبة" نفسها ضد أخرى في سلسلة من الحروب الحقيقية أو الحروب الثقافية التي تعمل على تشريع آليات الإنهيار. يجادل تورتشين بأنّ قوة تطبيق هذه المقاييس بطريقة "موضوعية" عبر العديد من المواقف التاريخية تكمن في ظهور مبادئ عامة، ويضيف قائلاً: "إن هدف الديناميات التاريخية (الكليوداينامكس) هو دمج جميع قوى التاريخ المهمة، سواء كانت ديموغرافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو أيديولوجية". إذا بدا هذا الطموح مُذكراً بعض الشيء بالسيد كازوبون و"مفتاح كل الأساطير"(1) المُحبط، فقد تجد - أو لا تجد - عزاءً في أنّ تورتشين قد أسند غطرسته وشكوكه إلى اليد الخفية لتحليل البيانات.
ليس من المُستغرب أن تحظى أساليب تورتشين ببعض المُؤيدين المُتحمسين بين طبقة الأثرياء الجدد في وادي السيليكون - مليارديرات لا يهتمون فقط بالرياضيات المُعقدة بل أيضاً بكيفية الحفاظ على جميع الأصفار المُرتبطة بثرواتهم الفاحشة. قال تورتشين في شأنهم: "فهم هؤلاء الأمر؛ لكن لا يعنيهم من كلّ الأمر سوى سؤال واحد لا غيره: كيف يُمكنهم جني المال من هذا الوضع؟
اذا كان تورتشين يتاجر بنهاية العالم فإنّ أمله هو تحديد الوسائل التي تمكنت بها بعض المجتمعات التي واجهت التهديدات الوجودية من التخفيف منها أو تجنبها. يدرس تورتشين الطرق التي نجت بها بريطانيا من الثورة بقانون الإصلاح لعام 1832، وكيف أدّت المؤشرات المتطرفة بعد الكساد الكبير إلى ظهور "فصيل مؤيد للمجتمع" داخل النخبة الحاكمة في أمريكا، والذي تخلى عن نسبة كبيرة من ثروته في الضرائب لمنع الكارثة. (عندما تم إدخالُ معدل الضريبة الفيدرالية في عام 1913، كان أعلى معدل 7 ٪؛ في حين لمدة عقدين بعد الحرب العالمية الثانية ظلت هذه الضريبة فوق 90 ٪). يكتب تورتشين: "تحتاج المجتمعات البشرية المعقدة إلى نخب - حكام وإداريين وقادة فكر - للعمل بشكل جيد". نحن لا نريد التخلص منهم؛ الحيلة هي إجبارهم على العمل لصالح الجميع". ومع ذلك، للأسف، لا تزال هذه الخوارزمية قيد الإنشاء.
1. مفتاح كل الأساطير The Key to All Mythologiesهو إسم العمل اللاهوتي الذي كرّس له القس إدوارد كاساوبون Edward Casaubon، عندما بلغ من العمر 45 عاماً، عقودًا من حياته. يُبرز عنوان العمل الرائع نطاقه الطموح للغاية. وظّفت جورج إليوت مقطعاً من هذا العمل في روايتها الملحمية Middlemarc. (المترجمة)
* تم آدامز Tim adams: صحفي مخضرم وأحد محرري صحيفة الأوبزرفر.
- الموضوع المترجم من صحيفة الغارديان

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram