TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العراق بوصفه نصا في متاهة العلامات

العراق بوصفه نصا في متاهة العلامات

نشر في: 28 أغسطس, 2025: 12:01 ص

إسماعيل نوري الربيعي

ليس العراق مجرّد جغرافيا تُحدّدها خرائط، ولا مجرد كيان سياسي صاغت حدوده يد المستعمر البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، بل هو نصٌّ مكتوب بالدم والتاريخ والذاكرة، نصٌّ يتعرّض باستمرار لإعادة القراءة والتأويل، نصٌّ لا يعرف الاستقرار في دلالة واحدة، بل ينفتح على تعدّد المعاني في كل لحظة تُتلى فيه حروفه. وإذا كان رولان بارت يرى أن النص ليس حكاية بسيطة تُروى، بل نسيج من العلامات تتشابك في شبكة كثيفة لا نهاية لها، فإن العراق — الوطن-النص — هو المثال الأبرز على ذلك: كائن متحوّل، تتنازعه القراءات، وتعيد كل قراءة صياغة معناه. حين رسم البريطانيون حدود العراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لم يصنعوا دولة بالمعنى المتماسك، بل أنتجوا نصًا مفتوحًا على التوتر والتنازع. لقد جمعوا بين ولايات عثمانية ثلاث (بغداد، البصرة، الموصل) دون أن تتجانس أنسجتها. هنا يظهر الرمز المرجعي عند بارت: النص يحيل إلى عالم خارجي، لكنه يحيل إلى عالم مشطور. فالعراق النص الاستعماري ليس "حقيقة"، بل تأويل سياسي مفروض، صياغة مشهد جغرافي في لغة القوة. هذا التكوين الاستعماري هو بمثابة عتبة النص، حيث بداية الحكاية التي لا تنتهي.
العراق الأمريكي بوصفه نصا ممزَّقا
بعد قرن تقريبًا، يأتي الاحتلال الأمريكي عام 2003 ليعيد كتابة النص، لكن هذه المرة كإعادة صياغة دموية. الأميركيون لم يتركوا العراق كيانًا، بل كنصٍّ مشرَّع للنهب والتفكيك. العراق هنا يصبح النص الميدوزي: نصٌّ يتشظّى، كل من يقرأه أو يحاول أن يثبّت معناه يصاب بالتيه والذهول. كأن الوطن ذاته قد تحوّل إلى كائن أسطوري يحوِّل قارئه إلى حجر من شدّة الرعب. بارت يعلّمنا أن النص لا يتبع نوايا كاتبه؛ والولايات المتحدة، رغم محاولتها أن تكتب سردية جديدة للعراق، لم تنتج سوى نصٍّ فوضوي تتنازعه الوحوش.
وفقًا لبارت، السؤال ليس: ماذا يقول النص؟ بل: كيف يقول ما يقول؟ والعراق-النص يقول ما يقول عبر رموز متداخلة: حيث الرمز السردي، وفيه العراق يبدو دومًا وكأنه في انتظار حدثٍ لم يكتمل. حيث الأسئلة تترى؛ ما الذي سيحدث بعد الانقلابات، بعد الحروب، بعد الغزو؟ النص السردي فيه مؤجَّل على الدوام، معلق بين بداية ونهاية لا تأتي. على مستوى الرمز الدلالي: الكلمات التي تصف العراق – وطن، حضارة، دم، خراب – كلها محمَّلة بطبقات من المعاني. الوطن قد يعني الحضن، لكنه أيضًا يعني المعتقل. الحضارة قد تشير إلى بابل وسومر، لكنها تحيل كذلك إلى مدافع الاحتلال وهي تفتّت المدن. على صعيد الرمز الثقافي: العراق نصٌّ يستحضر المعارف الكبرى: من ملحمة جلجامش إلى ملاحم الطوائف المعاصرة، من فتوحات العباسيين إلى اجتياح الدبابات الأميركية. كل قارئ يستحضر معه خزانًا معرفيًا مختلفًا، يضعه على النص ويعيد كتابته. على مستوى الرمز النفسي: العراق نصٌّ داخلي كذلك، يفتح جراح الفرد: الغربة، القمع، فقدان المعنى. كل عراقي يقرأ وطنه بوصفه مرآة لذاته المثخنة بالانكسارات. أما على مستوى الرمز المرجعي: حين يحيل النص إلى الخارج: النفط، الخرائط الاستعمارية، قواعد الاحتلال، كلّها علامات مادية تؤطر النص وتدفعه إلى دائرة الصراع الدولي.
بارت يعلن أن الكاتب يموت لحظة يكتب، ليعيش النص حياة مستقلة. العراق مثال صارخ: البريطانيون كتبوه على الورق، لكنه سرعان ما تمرّد على صانعيه. الأميركيون حاولوا إعادة كتابته، لكنه أفلت من قبضتهم. الحكام المحليون بدورهم سعوا إلى تثبيت معنى واحد – أيديولوجي أو قومي أو طائفي – غير أن النص لا يستجيب. العراق يظل يتجاوز مؤلفيه جميعًا، يرفض أن يُختزَل في تأويل واحد. بارت يصف النص بأنه لعبة لا نهائية من العلامات، متاهة يدخلها القارئ بلا خريطة. والعراق كذلك: نصٌّ لا يمكن القبض عليه في صورة واحدة. هو في آنٍ معًا: وطن وحلم وكابوس. سجن ومنفى. ذاكرة ذهبية لحضارات، وجرح مفتوح على حاضر مضرج بالدم. إن قراءة العراق ليست وصولًا إلى حقيقة، بل مغامرة في الدلالات، حيث كل باب يفتح بابًا آخر. القارئ هنا ليس متلقيًا سلبيًا، بل مشاركًا في كتابة العراق من جديد: مهاجرٌ يقرأ العراق بوصفه وطنًا مفقودًا، مثقف يراه نصًّا من الرموز الأسطورية، سياسي يقرأه كحقل نفط وحدود.
حين نصف العراق بـ"الميدوزا"، فنحن نقول إنه نصٌّ يفتك بمن يحاول تثبيته. ميدوزا الأسطورة تُحوِّل الناظر إليها إلى حجر؛ والعراق النص يحوّل قارئه إلى شظية من حيرة: لا يمكن أن يثبت معنى أمام هذا الطوفان من الرموز. كل محاولة لفكّ شفراته تنتهي بخلق شفرات جديدة. كأن العراق هو المتن السردي الذي يقاوم الاستقرار، يجبر قارئه على أن يكون في حركة تأويل دائمة. النص – كما يقول بارت – ليس كيانًا جامدًا، بل كائن يعيش حياة جديدة مع كل قارئ. والعراق، بهذا المعنى، ليس مجرد "وطن" بمعناه الجغرافي، بل نصٌّ حيّ، يُعاد تأويله مع كل جيل: جيل الثورة رآه ساحة للتحرر. جيل الحروب قرأه كمصيدة. جيل الاحتلال الأميركي رآه خرابًا. جيل المنفى يراه ذاكرة مفقودة. كل قارئ يكتب عراقًا جديدًا، ولا وجود لـ"عراق واحد" بل عراقات متعددة تتجاور وتصطرع.
العراق بين العلامة والجرح
في نظرية بارت، ثمة متعة في اللعب بالنصوص، لكن العراق-النص يقاوم المتعة البريئة. هنا اللعب يتقاطع مع الألم، العلامة مشبعة بالجرح. حين تقول "بغداد"، فأنت لا تستحضر مدينة مجردة، بل تاريخ القصف، الاغتيالات، الدمار، وفي الوقت نفسه تستحضر ذاكرة الشعر، دجلة، ألف ليلة وليلة. العلامة العراقية مزدوجة دومًا: وجه يبتسم ووجه يبكي، علامة تحتمل النقيضين في آن. النص العراقي لا يعرف مركزًا. كل محاولة لتثبيت معنى تنهار أمام زحف المعاني الأخرى. القومية لم تستطع أن تُثبّت معنى "العراق الواحد". الطائفية لم تتمكن من احتكار تأويله. الاستعمار والاحتلال لم يفلحا في جعله مجرد تابع. العراق يظل نصًّا بلا مركز، لا يقين فيه، بل انفتاح دائم على تعدد التأويلات. العراق ليس جغرافيا مرسومة في خرائط، ولا كيانًا واحدًا يُختزل في رواية رسمية. العراق هو نصٌّ مفتوح، ميدوزي، متشظٍ، يقاوم التثبيت. نصٌّ يتجاوز مؤلفيه، من البريطانيين الذين صاغوه على الورق، إلى الأميركيين الذين حوّلوه إلى ركام، إلى الحكّام الذين أرادوا احتكاره. كل قارئ يعيد كتابته بطريقته: شاعر يحيله إلى حلم، مثقف يجعله أسطورة، مهاجر يراه جرحًا. لا عراق واحدًا، بل عراقات متعددة، تتناوب على الظهور في لعبة لا تنتهي من العلامات. إن قراءة العراق بوصفه نصًا ليست محاولة للبحث عن "حقيقة" ضائعة، بل هي اعتراف بأن لا حقيقة واحدة هناك، بل شبكة من الرموز التي تفتح أبوابًا لا نهائية. العراق وطن-نص، نصٌّ يجرّ القارئ إلى المتاهة، إلى لعبة تأويلية لا نهاية لها، نصٌّ يجعل القارئ شريكًا في صناعته، نصٌّ يقاوم الاستقرار ويصرّ على أن يكون حيًّا، متحركًا، مُلتبسًا، مدهشًا، مخيفًا… نصًّا مثل الميدوزا، يفتن ويُرعب في الوقت ذاته، ويفتح باب التأويل على اتساعه دون أن يمنح يقينًا نهائيًا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram