TOP

جريدة المدى > عام > علي الفواز: لست ميّالا للناقد المُفسِّر بقدر انحيازي للناقد القارئ

علي الفواز: لست ميّالا للناقد المُفسِّر بقدر انحيازي للناقد القارئ

وجدت نفسي ابحث عن وظيفة أكون فيها شاهدا على ما يجري

نشر في: 2 سبتمبر, 2025: 12:42 ص

علاء المفرجي
الناقد والشاعر علي الفواز من مواليد بغداد ، حاصل على بكالوريوس في فلسفة الاعلام والاتصال، عضو ناشط في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وكان رئيسا له في الدورة السابقة، عمل في مجال الاعلام المرئي والمكتوب والمسموع، وكان عضو هيئة تحرير مجلة الأديب العراقي، ومراسلا لمجلة "اليوم السابع" في باريس ، وجريدة "القبس" الكويتية . نشر العديد من المقالات والدراسات النقدية، أصدر عدد من المؤلفات منها: "فنطازيا الدولة/ كتاب في الفكر السياسي"، و"أسئلة الدولة العراقية من النسق إلى الحداثة"، و"الشعرية العراقية/ أسئلة ومقترحات للقراءة" و"فصول التأويل" و"مرايا لسيدة المطر" و"مداهمات متأخرة" و"ألوان باسلة" و"مسرات سود" و"مراثي المكان السردي" و"سرديات الأثر البصري" وغيرها.
كيف تُعرِّف نفسك كـ "ناقد"؟ وهل ترى النقد الأدبي اليوم وسيلة للتأثير في الحراك الثقافي أم مجرد تفسير للنصوص؟
- أنا أفكّر في الكتابة، وأعدّ النقد ممارسة واعية في التفكير، واجراء يشبك المعرفي بالجمالي عبر اللغة، إذ تكون اللغة هي القنطرة والمجال الذي يمنح الخطاب قوته وتوصيفه، فالبشر كائنات لغوية أولا، وأن ما يجذبني الى النقد، بوصفه اقترابا من سحر تلك اللغة، ومن طاقتها في استنطاق الوجود، وفي التحريض على اثارة الاسئلة، والنقد في هذا السياق هو دخول مشاغب وماكر الى غابة تلك الأسئلة.
لا شك أن النقد فعل ثقافي، وهذا ما يجعله اكثر قدرة على تجاوز صفة الوسيلة، والانخراط في رهان القراءة الفاعلة، وفي كشوفاتها، حيث تجعل من تلك القراءة مختبرا، لفحص اللغة والنص والتاريخ، وبما يمنحها قوة التعرّف على الخطاب، وعلى ما يحمله من افكار، وبالتالي فإن النقد سيكون ممارسة مفتوحة ومتواصلة، على مستوى اجراءاتها في ً"تحليل الخطاب" أو على مستوى استثارة الرؤية، ومقاربة "المسكوت عنه والمقموع" فضلا عن أن النقد سيكون اجراءً معرفيًا، يتكىء منهجيا على آليات فحص تلك المعرفة، وبالاتجاه الذي تتعزز فيه قيم الدرس والخطاب والتعلّم النقدي بتوصيف تودوروف.
لست ميّالا للناقد المُفسِّر، بقدر انحيازي الى الناقد القارىّ، الذي يعمل على جعل مجال "القراءة والتلقي" رهانا على اختبار حيوية وعيه ومعرفته في الكشف، وفي التعرّف على قوة المعرفة في النص، والتلصص عمّا يُخفيه أو يكتمه، وعلى وفق هذا التصور أجد أن النص النقدي سيكون ممارسة في الفضح، وفي التفكير بصوت عال، حيث يكون نصا موازيا، وليس نصا تابعا بقياس التفسير الذي يرتبط بوظيفة الناقد النمطي.
هل لنا أن نتعرف على المرجعيات النظرية أو النقاد الذين أثّروا في تكوينك النقدي؟
- بدأت علاقتي مع الكتابة النقدية بالقراءة، واكتشاف النصوص من خلال السائد النقدي الواقعي الذي فرض خطابه، وجعل من نقادنا المؤسسين ينحازون الى اطروحات تقليدية، والى منهجيات لم تخرج كثيرا عن " النقد الانطباعي" بحمولاته القرائية الفاحصة، كما عند علي جواد الطاهر وعبد الجبار عباس، ولا عن "الواقعية النقدية" و"الواقعية الاشتراكية" عند اغلب نقادنا – فاضل ثامر، ياسين النصير، شجاع العاني- بحكم هيمنة الايديولوجيا وطبيعة البيئة الحزبية، لكن هذه التوصيفات والتمثلات لا تعني موقفا من اولئك النقاد المعلمين، ولا عن حيوية جهودهم بالتأسيس، بل إنها كانت عتبات، اسهمت بالتمهيد لـ "ثورة نقدية" تجددت معها "هوية النقد" ذاته، حيث الانفتاح على منهجيات وترجمات جديدة، اسهمت بربط النقد بالفلسفة وباشتغالها المفاهيمي، وبالمعرفة واطروحاتها الجديدة حول النقد ما بعد البنيوي والتفكيكي، وصولا الى التحول العميق نحو إجراءات "النقد الثقافي" وفضاءات الدراسات الثقافية.
هذا التحول والتغاير كشف عن مساحة ملتبسة، سببها عدم وجود "مشروع نقدي عراقي" لا على المستوى الاكاديمي، ولا على مستوى الواقع الثقافي، وهذا ما جعل الكتابة النقدية تعيش متاهة "التجنيس" حدّ أنها بدت الأكثر قربا من "غريزة النقد" ومن الرغبة في احتواء تاريخ الكتابة، وتحويل النقد الى نوع متعالٍ من التفكير، أقصد التفكير بوصفه وجودًا.
وجدت نفسي وسط هذا العصف النقدي باحثا عن هوية لذلك التفكير، ولملامح الذات المفكرة، وربما البحث عن وظيفة أكون فيها شاهدا على ما يجري، قارئا اركولوجيا، ومراقبا لما يمكن أن يتبدى في المشهد الذي كان صاخبا، وحيويا، ومسكونا بشغف صناعة الاسئلة، لا سيما ما يتعلق بأطروحات النقد الجديد، ولما يحمله من هواجس، ومن تعالقات تخص الفلسفة، ومدى علاقتها بالتفكير، فضلا عن مدى علاقتها بالمفاهيم التي اغوتني كثيرا، وحرضتني على تجديد قاموسي النقدي، والتعرّف على النظريات التي نزعت عن النصوص رماد علاقتها البائدة بالمقدس والتاريخ وصورة الناقد المُفسر.

هل تعتقد أن هناك أفقًا لتطوير النقد الأدبي في العراق بما يتناسب مع التحولات المعاصرة؟ وما هي الخطوات اللازمة لذلك؟
- يظل النقد الأدبي في العراق له خصوصية المغامرة، وبتوسع مساحات القراءة، لا سيما ما يتعلق بأطروحات واسئلة الحداثة، والانفتاح على سحر كشوفاتها الشعرية والقصصية، على مستوى صدمة حركة الحداثة الشعرية، وعلى مستوى تعالي هذه الحركة، لذا ظل " النقد" يعيش لحظة اندهاشه، واغترابه، وربما لحظة تخلصه من تبعيته للظاهرة الثقافية، فشعرية السياب والبياتي ونازك فرضت وجودها الثقافي كظاهرة مهيمنة، لم يستطع النقد ملاحقتها، وأن يقدم لها تأطيرا نظريا، بل ظل جزءا من تاريخها ومن سؤالها التجديدي.
تحولات النقد السريعة قادت الى ما يشبه المفارقة، لا سيما بعد الانفتاح على المناهج الحديثة، والتعرف على جديد التجارب النقدية والادبية، والتي اخذت النقد الى ما يشبه التمرد على التاريخ، وهذا ما احسبه الأفق الذي بدأ يتشكل، بوصفه رهانا على جدّة الكتابة النقدية، والخروج من عباءة "الناقد الانطباعي" مقابل الدخول الى عباءة الناقد الفاعل والكاشف عن المخفي من نظامها، ومن حمولاتها اللغوية والسيمائية وحتى الجمالية.
هذا الأفق كان صدمة أخرى، لجيل آخر، ولوعي آخر أكثر مفارقة، وأكثر نزوعا لتجديد ادوات الناقد ورؤيته للعالم واللغة والكتابة والمنهج والنظرية وعلاقة النقد بالمعرفة والعلم، ولتجديد مفاهيم تلك المعرفة، في سياقها الفلسفي واللغوي، وفي سياق استعمالها في المسار النقدي، وأحسب أن جيلا جديدا من النقاد مثل عبد الله ابراهيم وسعيد الغانمي ومحمد صابر عبيد وغيرهم قد بدأوا بالانفتاح على مساحات "محظورة" من النقد، في توصيفه النظري، وفي اشتغالاته المعرفية والثقافية..
هل تعتقد أن النقد العربي تخلّف عن مواكبة التحولات في الأشكال الأدبية الجديدة (مثل الرواية الرقمية، أدب الخيال العلمي وغيرها)؟
- طبعا، وهذا يدخل في الكشف عن رثاثة البيئة الثقافية ومعطياتها، وعن محدودية تفاعلها مع الثقافات الأخرى، فضلا عن انغلاق البيئة التعليمية والاجتماعية التي ظلت مؤطرة بسياقات عمل تقليدية، وبتوصيفات من الصعب تجاوزها، رغم أن هاجس التجديد كان حاضرا بقلق، على مستوى اطروحة الاصلاح والتجديد والأنوار، أو على مستوى التعرّف الذي باتت تطرحه الترجمات، أو عوالم دور النشر الجديدة، لا سيما في الثقافة الفرنكفونية، فضلا عن مساحة التي فتحتها المجلات الثقافية الجديدة في لبنان ومصر مثل مجلات الاديب وشعر والآداب والهلال وفصول والاديب العراقي عام 1961 وغيرها.سرديات الخيال العلمي لا تقليد واضح لها في ادبنا العراقي، وأن الكتابة فيها كانت محدودة جدا، وهذا ما جعل التعامل النقدي معها "حذرا" ولا قاموس له، ولا بيئة تلق واضحة، لقد شهدت مرحلة السبعينيات من القرن الماضي تحولا كبيرا، على مستوى تجديد كثير من الاسئلة الثقافية، ومنها ما يتعلق بالسؤال النقدي، وفاعليته في التعاطي مع اشكال جديدة للكتابة، مثل رواية الخيال العلمي، والرواية البوليسية، وادب الرحلات، وادب السيرة والجنس، وغيرها، والتي توسعت مساحات التعرف عليها مع توسع الترجمات الكبرى، لا سيما الفرنسية والانكليزية، واداب اميركا اللاتينية وغيرها.
هل يمكن للأدب أن يعيد تشكيل الذاكرة الجماعية؟ وكيف ترى العلاقة بين الرواية التاريخية والهوية الوطنية في العراق؟
- الأدب العربي ليس بعيدا عن الذاكرة الوطنية، ولا عن الاجتماع السياسي والاجتماعي، وحتى النضالي، فكان الشعراء في طليعة القوى الاجتماعية التي حملت مشروع نقد مظاهر الاستعمار، والجهل والتخلف، والدعوة الى التعليم والسفور والعدالة الاجتماعية وغيرها، وهذا ما يجعل الحديث عن امكانية أن يكون للأدب دور في تشكيل الذاكرة أمرا واردا، لكن هذا المشروع يتطلب وجود المؤسسات، والبيئات الثقافية التي تدرك اهميته وفاعليته، وأحسب أن الرواية العراقية قد مهدت منذ الستينيات الى ايجاد تعالق متواز بين التاريخ والسرد، أو بين التاريخ والهوية، فبقدر ما كان هذا التعالق قريبا من الايديولوجيا، الا أنه كان يؤشر وعيا نقديا عميقا بمفهوم الانسان، وعلاقته بالمكان والهوية، وبما يدور من صراعات عميقة، كانت الرواية هي الأكثر تمثيلا لسردياتها، ولنقد ما يخفيه الواقع من مظاهر وعلامات لـ "المسكوت عنه" ولعل روايات غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغانم الدباغ ونجيب المانع وفاضل العزاوي وجليل القيسي وموسى كريدي وغازي العبادي وعالية ممدوح ولطفية الدليمي وسميرة المانع وغيرهم تفتح أفقا لقراءة ما يدخل في وعي علاقة الأدب بالذاكرة الجماعية، والتاريخ والهوية..
هل تعتقد أن الأدب يمكن أن يكون أداة لإعادة كتابة التاريخ؟ وانت الذي قلت في حوار صحفي لك: أن "الغزاة لا يكتبون تاريخًا صالحًا للاستعمال".
- كتابة التاريخ لا تنفصل عن المكان، ولا عن الانسان، وأن الذهاب الى ما هو ملتبس في "اعادة كتابة التاريخ" سيضعنا أمام الكيفية التي سنقرأ بها هوية المكان، وهوية الإنسان، بعيدا عن هيمنة الايديولوجيا والطائفة والسلطة، فأنا اجد في هذه الهيمنة تعبيرا نفسيا وثقافيا لفكرة "الغزو" الذي يمكن أن يطيح بالتاريخ، ويجعل من رواته شهود زور، وأحسب أن تاريخ مدوناتنا العربية والاسلامية حاشد بكتابات الزور الثقافي والاجتماعي والسيروي.
لا انحاز كثيرا الى فكرة "اعادة كتابة التاريخ" لكني اجد في كتابة الرواية التاريخية، نوعا من الحل، إذ سيكون قرينا بالتخيّل، وبوضع سردياته داخل مشغل عمل الروائي، الذي يمكن أن يحفر في ذلك التاريخ، وأن يضع القارىء المعاصر إزاء سرديات مفارقة، تستدعي ما هو مقموع، وما هو محذوف أو مطرود، حتى تبدو هذه الكتابة وكأنها نوع من التطهير والوعي النقدي الذي يقشّر عن التاريخ كثيرا من الاوهام والغبار الذي تركته الجماعات اللاوعية وهي تدون تاريخها عبر التلفيق والتزييف، أو عبر خضوعها الى هيمنات السلطة والايديولوجيا والطائفة وإغواءات علم الكلام.
هل توافق على أن الأدب يمكن أن يكون "خيانة للتاريخ" كما ذكرت سابقًا؟ أم أن هناك مساحة للخيال في معالجة الأحداث التاريخية؟
- كل كتابة في التاريخ هي شكل للخيانة، لأنها ستحمل معها طردا للآخر المختلف، وهذا ما يُعطي ل"المتخيل السردي" بتوصيف عبد الله ابراهيم، وظيفة متعالية، تقوم على إعادة فحص هذا الطرد، اعادة قراءة الحدث والخطاب والبيئة السياسية، بعيدا عن سرديات الاحكام وعلاقتها بالمكتبة التاريخية، وبالمقدس، وبالسيرة التي جعل منها "جورجي زيدان" نوعا من الاستعادة الرومانسية لأحداث وشخصيات تاريخية مفارقة ومثيرة.
قد تكون رهانات "التخيل التاريخي" خيارا ثقافيا، أو حتى خيارا "سياسيا" تمارسه السلطة بعناوينها المتعددة، لكنه سيظل خيارا صعبا، لأن ما نعيشه اليوم من ازمات، ومن تشظيات يرتبط بعضها بسوء استعمال "المتخيل التاريخي" وقيام البعض الآخر بفرضه وكأنه سلطة للموجود على الوجود. احسب أن فكّ عقدة علاقتنا بالتاريخ يبدأ من التخطيط لمشروع بناء الدولة "العاقلة" الدولة التي يمكن أن تؤنسن قراءة "المختلّف عليه في التاريخ" بوصفه جزءا من نهضتها الثقافية، ومن اصلاح مؤسساتها، فيالتعليم وفي تحرير العقل الثقافي من السلطة ذاتها، وفي اعادة صياغة مفهومية للأمن الثقافي والتنمية والعلم والمعرفة بعيدا عن فرضيات التدين الشعبي والايديولوجيا التي ورثنا حرائقها من اليمين واليسار.
ما رؤيتك لمستقبل الأدب العراقي في ظل العولمة والتكنولوجيا الحديثة؟ وهل يمكن الحفاظ على الهوية الثقافية في هذا السياق؟
- الأدب العراقي ليس جزءا من المريخ، إنه عالم ارضي، مسكون بالأشباح، والبطولات وسير والملوك والصعاليك والشعراء والحكواتيين، وهذا ما يجعله ادبا مكانيا، ليس سهلا التمرد على ذاكرته، وتقشير طينها المثيولوجي، حديث المستقبل هو ذاته حديث الخروج من التاريخ الى المتخيل، والى ما يصنعه السرد " شعريا كان أم حكواتيا" إذ يتحوّل الكتّاب الى شهود ورواة، والى صانعي زمن ثقافي، يّحرّض على اهلية التجاوز، وعلى التعاطي مع العالم بوصفه وجودا، واللغة بوصفها مكوثا سائلا، والنظر الى المستقبل بوصفه جزءا من التجاوز ذاته، فالعولمة والتنكولوجيا والفضاء الرقمي كلها أدوات تدخل في صناعة المعرفة، وفي اعادة تأهيل الكائن الى كينونة أخرى، لكنها لن تكون بعيدة عن ذاكرة الهيمنة، ولا عن السلطة، فالغرب الذي "صنع العولمة" جعلها جزءا فائقا في نظامه الرأسمالي، ومن تركيز سلطته داخل سياق مسار ليبراليته الجديدة، وعلى نحو تقوض معها التاريخ والهوية، وباتجاه وضعنا أمام سؤال انطولوجي مغاير، هو مستفز في علاقتنا بالمركزيات والسرديات الكبرى، لكنه ثوريٌ في تحرير الذات من سلطة المؤلف القديم والحكواتي القديم، والذي جعل من اعادة كتابة التاريخ وكأنها ممارسة في السخرية كما يقول ماركس، إذ لم حديث الهوية والوطنية والقومية و"الفرقة الناجية" صالحا، أمام عالم يحتاج الى الذات المفكرة، الفاعلة التي تملك قدرة تأهيل المكان بوصفه وجودا، واللغة بوصفها تاريخا، والزمن بوصفه تمثيلا لصلاحية الكينونة في مواجهة النسيان والمحو.
كيف تقيّم دور المؤسسات الثقافية العربية في دعم حركة النقد؟ وهل هناك إهمال متعمد للنقد مقابل التركيز على الإنتاج الإبداعي؟
- لم يعد هناك فاعلية لما يمكن تسميته ب"المؤسسات العربية" على مستوى "اتحاد الادباء والكتاب العرب" أو التنظيمات المهنية الأخرى، فالفضاء الثقافي "العربي" تخلّى كثيرا من مسؤولياته الحالمة والثورية، ودخل في لعبة حاكميات السوق وادارة السياسات، و"الجوائز العربية" التي بدت استعراضية اكثر من أي شيء آخر. اعتقد أن الحراك الادبي- رغم زحمة الاصدارات- سيظل جزءا من تلك الوسائط المحكومة، التي لم تعد خاضعة الى مسميات مركزية، رومانسية وتاريخية واخلاقية، مثل الأمة العربية والوطن العربي والبلاد العربية، فالأمة تحولت الى مجال فيللوجي، والعروبة هوية وليست مؤسسة، وحتى "العقل العربي" خرج من منطقة النقد الى ما يشبه المتاهة، لذا لم اعد اراهن على مشاريع عربية ولا على مؤتمرات واتفاقيات، قد حاجتنا الى حوارات ثقافية وتواصلات ثقافية تدخل في سياق تبادل المنافع الثقافية، دون الاعتماد عليها في صياغة رأي عام ضاغط ، أو في اتخاذ قرارات ومواقف عربية حقيقية إزاء قضايانا المصيرية التي اخذتها السياسة الى جبهات لم تعد ساخنة، والى ولاءات تخفي أكثر مما تُضمر.
ما هي أبرز التحديات التي يواجهها النقد الأدبي العربي اليوم؟
- قد يكون الرهان الواسع على النقد العربي محكوما بالتجديد، لكنه سيظل مسكونا بغربة مواجهة نقد الذات، والتعاطي مع اسئلة الواقع واشكالاته، فإذا كنا قد فقدنا الثقة بالمشروع النقدي، فإن العلاقة مع اسئلة النقد الغربية ستكون اكثر ضغطا، لأنها ستفتح اسئلة للمواجهة والمراجعة، على مستوى التعاطي مع المناهج والنظريات والمشاريع والترجمات، وعلى مستوى الانفتاح على مسارات جديدة تخص النقد الثقافي والدراسات الثقافية.
العلاقة مع الآخر، واسئلة الحرية والعدالة والتنوع الثقافي وحماية الجماعات الثقافية، ستكون من أكثر التحديات التي تواجه "الخطاب النقدي" فبقدر ما تستدعي وعيا استثنائيا بمشكلاتها، فإنها باتت مفتوحة على مجالات ثقافية "سائلة" كما سمّاها ريجونت، حيث تقوضت صلادة التاريخ، وصورة الانسان وبطولته، أمام تشظيات ما بعد الحداثة، واطروحاتها حول "موت" السلطة والذات والمؤلف والزمن والهوية وغيرها من المفاهيم التي تعرضت الى خرق تداولي كبير وخطير.
كيف تتخيل مستقبل النقد في عصر الذكاء الاصطناعي وتغول الخوارزميات على الثقافة؟
- على الناقد العربي الاعتراف بأن الزمن الثقافي والمكان الثقافي قد خرجا عن السيطرة، وأن الدخول الى "التخيل المستقبلي" سيكون خيارا اضطراريا، ودافعا لمواجهات لم تعد آمنة، لأن ما يستحق من الكتابة الجديدة يتطلب تغييرا حقيقيا في الوسائط والادوات، وفي اختيار ما يجعل الخطاب النقدي أكثر تمثيلا لتناقضات ومفارقات الاسئلة التي يطرحها الثقافي والاجتماعي، وحتى السياسي.
الدخول الى عصر الذكاء الاصطناعي لا يعني الدخول الى كولنيالية جديدة، والى غربة ثقافية، قدر الدخول الى ما يمكن تسميتها ب"صدمة الما بعد" التي جردت الكائن من قدرته على صيانة كينونته، ووضعته أمام عالم لم يعد صالحا للتماثل، وقريبا من الوعي باختلافه، والذهاب الى رهانا اخراجه من وهم المركزيات الكبرى، بما فيها وهم العقل الكلونيالي الذي تركنا نعيش وحشة "التبلبل" اللغوي والثقافي والوجودي.
الذكاء الاصطناعي وتغوّل الخوارزميات هو شرط "الزمن النيوليبرالي" حيث فرضية الاخضاع لمنظومات التواصل، ولشفرات "الأب/ العراب" ولسلطة رقابته العابر للقارات، والذي يتطلب الدخول الى عالم الوسائط والتطبيقات أكثر من الدخول الى البلاغة واستعاراتها ومجازاتها، وهو ما ينعكس على وظيفة النقد، وعلى صناعة الخطاب، وعلى تجديد ادواته النقدية والمعرفية، والنظر الى النص من زوايا جديدة، وعبر قراءات جديدة، وحتى عبر مناهج تدخل في سياق النقد البيئي والنقد الانثربولوجي، وصولا الى تسويغ اطروحات اللاتجنيس في التعاطي مع اجناس وانواع تكرست عبر معالجات النقد القديم.
ما هي المشاريع التي تعمل عليها حاليًا؟ وهل هناك توجه نحو كتابة إبداعية أم ستظل في النقد؟
- الكتابة لا حدود لها، ولا خرائط تجعلها مسكونة بفكرة النمط والتكرار. أنا كاتب، وأجد في حرية الكتابة هي الرهان على الوجود، وعلى ربط ما اكتبه بتاريخي الشخصي، بوصفه تاريخ بطولتي واحلامي وحروبي وشهواتي.
مشروعي النقدي والفكري هو المساحة التي اتحرك فيها، بوصفها مجالا لمساءلة الافكار ذاتها، ولإعادة نقدها ومراجعتها، على مستوى استعمالاتها في "القراءة الفاعلة" وعلى مستوى وظيفتها الاجرائية في نقد النقد، وفي مراقبة العالم من خلال اللغة وفي تتبع الجديد في مجال الدراسات الثقافية، وفي استثمار الفكر الفلسفي في انضاج مفاهيم النقد الادبي ذاتها، ستصدر لي قريبا في القاهرة رواية جديدة، وهناك مشروع كتاب فكري عن الفليسوف السلوفيني "سلافوي جيجك" وكذلك اعمل مشروع نقدي حول سرديات محمد خضير.
لا يمكن فصل النقد عن الابداع، إذ هو كتابة تتغذى بالمعرفة، وأن حصر الابداع بزاوية ضيقة، ليس دقيقا، فالنقد لم يعد نصا تابعا، ولا مشروطا بالتفسير والشرح، بقدر ما هو الاقرب الى النص الموازي، وهذه الصفة اعطته قوة مفارقة، وحضورا من السذاجة اخراجه عن المنطقة الابداعية التي تعني في جوهرها التفكير بطريقة ابداعية، والكتابة بحرفنة العقل المبدع..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram