TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الديمقراطية بوصفها وسيلة لتقاسم الغنائم

الديمقراطية بوصفها وسيلة لتقاسم الغنائم

نشر في: 3 سبتمبر, 2025: 12:01 ص

إسماعيل نوري الربيعي

لم يكن الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 حدثاً سياسياً أو عسكرياً وحسب، بل كان لحظة انكشاف عميقة لبنية المجتمع العراقي بأسره، لحظة أطاحت بالأقنعة وكشفت عن هشاشة مرتكزاته الفكرية والسياسية والأخلاقية. في هذا السياق يمكن استثمار المطرقة النتشوية، بما هي أداة للهدم والكشف والفضح، من أجل مساءلة الأسس التي يقوم عليها الوعي العراقي الراهن. فكما هاجم نيتشه الميتافيزيقا الأفلاطونية والمسيحية بوصفهما مولّدتين لثنائيات قاتلة: الحقيقة/الخطأ، الروح/الجسد، الثابت/المتحوّل، كذلك يمكن أن نستخدم نفس المنهج لتفكيك الثنائية العراقية في مجتمع ما بعد 2003، ثنائية الطائفة/الوطن، الدين/السياسة، الظاهر/الباطن، والشرعية/الفوضى. تشظّت "الحقيقة" إلى حقائق متناحرة. الأحزاب الدينية رفعت لواء الحقيقة المطلقة المستندة إلى نصوص مقدّسة مؤوّلة على نحو نفعي، في حين روّجت القوى العلمانية لحقائق حداثية مجتزأة، بينما أنتج الإعلام خطاباً يتلاعب بالوقائع، ويعيد صياغتها بما يخدم مصالح مموليه. نيتشه علّمنا أن الحقيقة ليست سوى "جيش من الاستعارات" تحوّلت عبر الاستعمال الطويل إلى أوهام ثابتة. بهذا المعنى، ما يقدَّم في العراق كحقيقة دينية أو وطنية أو سياسية، ليس سوى أقنعة تخفي مصالح سلطوية ومنافع اقتصادية. الحقيقة المعلنة عن "الديمقراطية" بعد الغزو لم تكن سوى وهم، يُشرعن تقاسم الغنائم بين أحزاب طائفية. وما سُمّي "التحرير" لم يكن إلا إعادة إنتاج للعبودية بشكل جديد.
أخطر ما خلّفه الغزو الأميركي، هو إغراق المجتمع العراقي في ميتافيزيقا الجروح الروحية، على حساب واقع الجسد. فبينما الجسد العراقي يعاني من الموت اليومي، التفجيرات، البطالة، وانهيار الخدمات، ظلّ الخطاب العام يتحدث عن "الروح الوطنية" أو "المظلومية الطائفية". هذه الثنائيات تعيد إنتاج الفصل الأفلاطوني، بين الجسد الفاني والروح الخالدة. لكن نيتشه يذكّرنا بأن الروح ليست إلا وظيفة للجسد، وأن العافية الحقيقية هي عافية الأرض لا عافية السماء. المجتمع العراقي، إذ يعلّق خلاصه على ميتافيزيقا أخروية، يغفل عن إصلاح البنى المادية: الكهرباء، الصحة، التعليم. وبذلك يستمر الجسد في النزيف، بينما يظلّ الخطاب مشدوداً إلى وعود الخلاص الأخروي أو الطائفي. العقل السياسي في العراق ما بعد 2003 لم يكن سوى قناع يخفي نزعات بدائية حسّية. كثير من القادة رفعوا شعارات "العقلانية السياسية" و"الديمقراطية الدستورية"، لكن الممارسة الفعلية كانت خاضعة لغرائز البقاء والسيطرة والانتقام. نيتشه يقول إن "العقل" ليس إلا أداة في خدمة إرادة السلطة، وأنه لا يوجد عقل خالص منفصل عن الدوافع الحيوية. بهذا المعنى، العقلانية العراقية ما بعد الغزو لم تكن سوى "غريزة متنكّرة"، خطاب يزعم التجريد بينما يخفي طموحات دنيوية فجة. الفصام بين العقل المعلن والحس الممارَس جعل المجتمع يعيش على وقع ازدواجية قاتلة: في العلن دستور حديث وانتخابات، وفي الخفاء صفقات فساد وعلاقات قبلية وطائفية.
من أكثر الثنائيات حضوراً في العراق الراهن، هي ثنائية الظاهر/الباطن. السياسي يظهر في الإعلام كحامٍ للوطن والمقدّسات، بينما في الباطن هو متورط في شبكات فساد وسرقة. رجل الدين يظهر كواعظ للفضيلة، بينما ينسج في الخفاء تحالفات مع أمراء الحرب. هذا الانشطار يعكس ما انتقده نيتشه في الأخلاق المسيحية: أخلاق الضعف التي ترفع شعارات التواضع والعفّة، بينما تخفي نزعات السلطة والسيطرة. ما بعد 2003، تحوّل المجتمع العراقي إلى مسرح ضخم للنفاق العام: كلام عن الديمقراطية في العلن، وممارسات مافيوية في الخفاء. الظاهر صار قناعاً للباطن، لكن نيتشه يذكّرنا أن "لا باطن بدون ظاهر"، وأن علينا تحطيم هذه الثنائية، فالقيمة تكمن في الممارسة لا في الأقوال. الفكر العراقي الراهن يتأرجح بين خطاب ميتافيزيقي عاجز عن مواجهة الواقع، وخطاب براغماتي غارق في اللحظة. فلا الفكر قادر على إنتاج رؤية للوجود، ولا الوجود قادر على أن يجد ما يبرّره في الفكر. هذه الازدواجية أعادت العراق إلى مرحلة "العدم"، حيث تغيب الأسس الكلية التي تمنح الوجود معنى. نيتشه رأى أن الميتافيزيقا أفقدت الوجود قيمته حين شطرته إلى عالمين: حقيقي وظلّ. المجتمع العراقي اليوم يكرر نفس المأساة: يطلب وجوده في "هوية طائفية" أو "مظلومية تاريخية" أو "يوتوبيا قومية"، في حين أن الواقع الفعلي ينهار. التأسيس النتشوي للمعنى يقوم على المنظورية: أي على تعددية الرؤى التي لا تدّعي امتلاك الجوهر. لكن العراق، بدلاً من احتضان التعدد كقوة، حوّله إلى صراع إلغائي دموي.
وفقاً للمنهج الجينالوجي، لا تُفهم القيم إلا بردّها إلى أصولها النفعية والتاريخية. فإذا طبقنا هذا على المجتمع العراقي بعد 2003 نجد أن القيم المعلنة (الوحدة الوطنية، الديمقراطية، العدالة) ليست إلا أقنعة لمصالح مادية. الدعوة إلى "الوحدة الوطنية" كثيراً ما كانت ستاراً للتفرد بالحكم. شعار "الديمقراطية" كان غطاءً لإعادة توزيع السلطة بين زعامات طائفية. حتى "العدالة" لم تكن سوى أداة للانتقام باسم القانون. الجينالوجيا تكشف أن هذه القيم ليست مطلقة ولا متعالية، بل مرتبطة بإرادة السلطة لدى الفاعلين السياسيين والاجتماعيين. ما بعد 2003 إذن هو مشهد تتجلى فيه كل مظاهر "العدمية" النتشوية: انهيار المعنى، وتحوّل القيم إلى أدوات في يد القوى المتصارعة. نيتشه يرى أن إرادة السلطة هي المبدأ الأعمق الذي يفسر السلوك البشري، لا العقل ولا الأخلاق. في العراق الراهن، يظهر هذا بوضوح: الطائفة تريد أن تثبت ذاتها، العشيرة تريد أن توسّع نفوذها، الحزب يسعى إلى تكريس سلطته، الفرد يلهث وراء مغانم شخصية. كل ذلك يُشرعن بخطابات دينية أو وطنية، لكن الحقيقة أن ما يحركه هو إرادة السلطة. غير أن المأساة أن هذه الإرادة لم تتحوّل إلى "إرادة للحياة" كما أرادها نيتشه، بل إلى إرادة تدمير متبادل. السلطة استُهلكت في تمزيق الوطن بدلاً من إعادة بنائه.
إذا أردنا أن نحمل مطرقة نيتشه على الواقع العراقي، فعلينا أن نضرب بها ليس على الأصنام القديمة وحسب، بل على الأصنام الجديدة التي نشأت بعد الغزو: صنم الطائفة، صنم الزعيم، صنم الضحية. هذه الأصنام تحولت إلى ميتافيزيقا جديدة، لا تقل خطورة عن الميتافيزيقا الأفلاطونية والمسيحية. المطلوب نتشوياً هو إعادة تأكيد الحياة بما هي صيرورة، ونزع الشرعية عن كل خطاب يدّعي امتلاك الحقيقة النهائية. العراق بحاجة إلى ما يسميه نيتشه "إعادة تقويم القيم": تحويل السلطة من أداة للهيمنة إلى أداة للإبداع، تحويل التعددية من ساحة صراع إلى فضاء خصب للتنوع، وتحويل الألم من لعنة إلى قوة دافعة.
المجتمع العراقي ما بعد الغزو الأميركي يعيش مأساة مزدوجة: من جهة انهيار الأسس القديمة التي كانت تمنحه شكلاً من الاستقرار، ومن جهة أخرى عجزه عن إنتاج قيم جديدة قادرة على تأسيس وجوده. استخدام مطرقة نيتشه يتيح لنا كشف الأوهام التي تسكن هذا المجتمع: أوهام الحقيقة المطلقة، أوهام الروح الطاهرة، أوهام الباطن النقي. الجينالوجيا النتشوية تكشف أن كل هذه الأوهام ليست سوى أدوات نفعية في يد القوى المتصارعة. إن تجاوز هذا المأزق لا يتم إلا بالتخلص من الثنائيات الميتافيزيقية والاعتراف بأن الوجود العراقي، بكل تناقضاته، هو وجود في صيرورة، لا يحتاج إلى خلاص سماوي ولا إلى زعيم مخلّص، بل إلى شجاعة مواجهة الأرض كما هي.
هذه هي "الولادة الجديدة" التي بشّر بها نيتشه: ولادة الإنسان القادر على أن يقول نعم للحياة رغم آلامها، وأن يصنع قيماً جديدة تتجاوز عدميّة الحاضر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram