د. نادية هناوي
يتبع منظرو علوم السرد ما بعد الكلاسيكية أسلوبا مبتكرا في البحث والدراسة يقوم على دينامية العمل النقدي الجماعي الذي فيه يكون للمنظر ذي الباع المعرفي في ميدان تخصصه دور "المشرف" على مشروع دراسي، يشترك في الاشتغال عليه فريق مؤلف من مجموعة نقاد وباحثين ينتمون إلى قطاعات معرفية متنوعة وبتخصصات معينة، يوظفونها في دراسة طرف من أطراف ذاك المشروع. ولقد ساهمت طريقة الفرق البحثية ومنهجية التعدد الاختصاصي في أن تدفع بعجلة المدرسة الانجلوامريكية نحو الأمام كثيرا، وتجعلها تقطع أشواطا قياسية مقارنة بما كانت المدرسة الفرنسية قد قطعته من أشواط في عقود سابقة، لسبب جوهري هو أن هذه الأخيرة كانت في مشاريعها البحثية تعمل بطريقة فردية حيث المُنظِّر السردي يختص بمفرده في استجلاء قضية ما من القضايا النظرية، فيتوصل الى نتائج معينة، تختلف في درجة أهميتها تبعا لطبيعة نشاط المُنظِّر والظرف الذي يعمل فيه.
ولقد اتبع علماء السرد غير الطبيعي طريقة الفريق البحثي في وضع مشاريع تُعنى بدراسة حيثيات صناعة واقع، هو ليس بالعجيب أو الغريب أو غير المعقول، وإنما هو واقع مصنوع أي جديد لا محاكاة فيه لأي مثال حاصل أو نموذج سابق. ولقد ساعدهم ذلك كله في أن يتقدموا بخطوات واثقة، ويتمكنوا في ظرف وجيز من بلوغ مستويات علمية، فيها كل باحث يعمل بحسب مجال اختصاصه الذي هو فيه خبير. ومن مجموع أعمال هؤلاء الباحثين يتأتى للمشرف على المشروع أن يستخلص النتائج ويحدد المسائل التي هي مفصلية في مجال البحث المعرفي. وعادة ما تتخذ خلاصات المشرفين شكل مقدمة مستفيضة لكتاب نقدي يضم مجموعة دراسات أنتجها الفريق البحثي. وعادة ما يصبح هذا النوع من الكتب النقدية بمثابة مراجع علمية في بابها.
ومن الكتب التي بنيت على طريقة الفريق البحثي كتاب(السرديات غير الطبيعية- علم السرد غير الطبيعي)2011. وهو في الأصل مشروع أشرف عليه الألمانيان جان البر وروديجر هاينز بعد أن اختارا أحد عشر باحثا للعمل معهما كفريق واحد. ونجد من بين هؤلاء الأحد عشر من هو ضليع في هذه السرديات مثل براين ريشاردسون، ومنهم من هو باحث ناشئ. كما أن منهم من هو متخصص بالنظرية السردية، ومنهم من هو بعيد عنها إلى حدٍّ ما.
وقد نتصور أنَّ في هذا التنوع مثلبةً على أساس أنَّ الباحث الناشئ وكذلك الذي له تخصص مجاور أو بعيد عن نظرية الأدب، لا يقدمان ما يتوقع منهما الإتيان به من نتائج. والحقيقة أن في هذا التنوع قوة، كونه يكشف عن مناطق في البحث، قد لا يتسنى للمتخصص والضليع الانتباه إليها بحكم انهماكه في التدقيق في ما يراه مهما وجوهريا.
وابتدأت آلية عمل الفريق البحثي -المشارك في إعداد هذا الكتاب- بإقامة مؤتمر علمي في معهد فرايبورغ للدراسات المتقدمة(FRIAS) بألمانيا للمدة 11 - 13 نوفمبر 2008. وحمل عنوان(السرد غير الطبيعي، السرديات غير الطبيعية) وأشرف عليه جان ألبر وروديجير هاينز اللذان قاما بتوزيع محاور العمل بين أربع فئات بحثية، ولكل فئة مهمة محددة، وكالاتي: 1) منظورات متزامنة وأخرى تاريخية 2) سراد وعقول غير طبيعية 3) زمن غير طبيعي 4) عوالم وأحداث غير طبيعية.
وكان لبراين ريتشاردسون دور محوري في هذا المؤتمر بما طرحه من مفاهيم جديدة، منها ثلاثة رئيسة او تأسيسية في نظرية السرد غير الطبيعي وهي (1/ الصوت أي هوية السارد، 2/القصة أي تسلسل الأحداث بشكل متسق منطقيًا، 3/ الاتساق المعرفي أو فكرة أن الشخصية لا يمكنها معرفة محتويات عقل شخصية أخرى).
وتتأتى أهمية المقدمات في مثل هذا النوع من المشاريع/ الكتب، من كونها مترشحة من مجموع ما تم إنتاجه والتوصل إليه من أفكار وتصورات. وهذا ما نجده في مقدمة المشرفين البر وهاينز، ويبدأن بالقول:(إن السرديات غير الطبيعية ليست غير طبيعية في حد ذاتها، بل هي بالأحرى سرديات لما هو غير طبيعي. لذا نطلب من القراء اعتماد جميع الحالات على هذا النحو المحدد) وفي هذا إشارة إلى ما توصل إليه الفريق البحثي من نتائج، تُوسِّع نطاق "اللاطبيعي" ليشمل عمل السارد البشري وتوظيف الزمان والفضاء السردي والتقنيات الفنية.
وليس المشرفان البر وهاينز محرريْن بالمعنى المعروف للتحرير - وإن كان هذا هو الوسم الذي وُضِع لهما على غلاف الكتاب- ذلك أنَّ التحرير جزءٌ من فعل الإشراف وليس كله. والمشرف مقوم بحثي، ومهيكل عمل علمي، وصانع محتوى نقدي، يتدخل ويناقش ويحدد ويقسِّم ويفرض ويرفض.. إلى غير ذلك من المهام العلمية التي لها اعتبارها المهني وقيمتها الأبستمولوجية في ممارسة العمل الأكاديمي أيا كان جامعيا أو غير جامعي.
ومما تشير إليه خلاصات جان البر وروديجر هاينز أنَّ علم السرد غير الطبيعي فرعٌ من فروع السرديات ما بعد الكلاسيكية، يُعنى بفئات سردية أهملها علم السرد الكلاسيكي. ولا يستكمل هذا الفرعُ عملَ البنيويين في ما قدموه من مفاهيم وأفكار، ذلك أنه في ما يعتمده من أدوات تحليلية جديدة، إنما يكشف عما لبعض السرديات من انحراف عن الأطر الواقعية بطرق متنوعة ومختلفة، تفكك وظيفة السارد والمسرود البشريين، والعقول المرتبطة بها. وتتجاوز المفاهيم الواقعية للزمان والمكان والحكي والمحكي وبالشكل الذي يأخذنا إلى مساحات من الاشتغالات السردية غير المدروسة سابقا، سواء على مستوى نسج الحبكة (ما الذي يحكى) أو على مستوى صياغة الخطاب(كيف يحكى)
ولعل أهم صفة تتأكد من خلالها جدة دراسات علم السرد غير الطبيعي هي الصفة المنهجية المتمثلة بالتعدد الاختصاصي، وهي بالضد من التوجهات المنهجية الأحادية او التجزيئية أو البينية. وما تعنيه التعددية في التخصصات ليس التشعب، بل اللملمة لأطراف عدة من الموضوع المبحوث. وهذا ما يسعى إليه مشروع البر وهاينز، يقولان:(إنه على الرغم من أن جوهر علم السرد غير الطبيعي هو اهتمامه بالنصوص الغريبة والشاذة أو غير المألوفة، فإنه ليس مدرسة فكرية متجانسة، ولا هو نظرية ذات توجه عام، بل هو حركة متعددة الأوجه وهجينة متعددة الأصوات ووجهات النظر والتعريفات.)
إن هذا التوجيه لمفهوم " اللاطبيعي" يجعله يتحول من معنى محدد إلى معانٍ واسعة ومتعددة، ولها معاييرها المعرفية في تحليل القصص والروايات غير الطبيعية.
تجدر الإشارة إلى أن جان البر كان قد حددّ (اللاطبيعي) بالتجارب السردية غير المألوفة التي تنحرف عن وضعيات العالم الحقيقي وتكون عنيدة أو مقاومة لما هو متوقع. ومثِّل على ذلك بسيناريوهات مستحيلة تشتمل عليها روايات ما بعد الحداثة، ووضع خمس استراتيجيات لدراسة مواضع هذه السيناريوهات، تساعد القراء في فهم اللاطبيعية من خلال قراءة الأحداث كحالات داخلية، أو كأجزاء من هياكل رمزية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه في هذا المشروع أضاف إلى " اللاطبيعي" فهما معرفيا جديدا، متأثرا بجوناثان كولر الذي صاغ مصطلح (التطبيع)عام 1975 وقصد به إدراك القراء للعناصر غير القابلة للتفسير في النص من خلال اللجوء إلى أنماط تفسير مألوفة. وكانت مونيكا فلودرنيك قد وسَّعت تصورها لغير الطبيعي ليكون استراتيجية في قراءة النصوص يلجأ إليها القراء في فهم معايير تستند إلى تجربة العالم الحقيقي. وهذا ما يراه ديفيد هيرمان بمثابة عمل، معه (تصبح مهمة القارئ سيزيفية اذ يتعين عليه إجراء عمليات رسم خرائط تبدو مستحيلة لتوجيه نفسه داخل عوالم القصص التي ترفض أن يتم تنظيمها بمساعدة معايير معرفية موجودة مسبقًا.)
وأيا كانت التصورات، فإن فهم معنى "اللاطبيعي" يبقى إشكاليا من ناحية التعدد في تحديد الماهية بما هو تقليدي وغير تقليدي وبشري وغير بشري، ومعتدل ومتطرف، ومستقيم ومنحرف، وجوانب أخرى، معها يصعب وضع تحديد اصطلاحي دقيق لمعنى " اللاطبيعي"، يحقق التوازن في التمييز بينه وبين معنى الطبيعي.
السرديات والفريق البحثيّ

نشر في: 7 سبتمبر, 2025: 12:03 ص









