TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مفارقات المدونة الجعفرية (1) ضامن الجريرة: إلى الوراء درْ!!

مفارقات المدونة الجعفرية (1) ضامن الجريرة: إلى الوراء درْ!!

نشر في: 10 سبتمبر, 2025: 12:01 ص

علي المدن

ورث الإسلام عن البنية الاجتماعية العربية قبل الإسلام جملة من النظم، كان من أبرزها ما يتصل بالنظام الجزائي. فإذا ارتكب أحدهم جناية عمدًا أو خطأً، كانت عشيرته تتحمّل دفع الدية إلى المجني عليه وذويه. وقد أُطلق على هذا النظام اسم العاقلة، أي الجهة التي "تعقل" عن الشخص، بمعنى تدفع عنه الأذى وتحميه.
وتتكوّن العاقلة من أطراف متعددة:
• العصبة، وهم أقارب الرجل من الذكور.
• المعتِق، وهو السيد الذي أعتق عبده.
• ضامن الجريرة، وهو شخص يعقد معه السائبة (= من لا عشيرة له، أو لا ولاء له مع سيده الذي أعتقه) عقدًا يتعهّد بموجبه أن ينصره ويحميه ويتحمّل عنه الدية إن جنى.
• الإمام، وكان في صدر الإسلام متمثّلًا بالنبي نفسه (ثم الأئمة بعده عند المذهب الإمامي).
وكان لهذه العاقلة، مقابل الحماية، بعض الحقوق. منها الإرث، تجسيدًا للقاعدة الفقهية المشهورة: من له الغُنم فعليه الغُرم، أي أن المستفيد من الإرث يتحمّل تبعات الضمان. ولهذا كان الكلام الفقهي في موقع العاقلة ينصبّ أولًا على مسؤوليتها في باب الجنايات، ثم يفرّع منه أثرها في باب الإرث.
الدور الأخطر للعاقلة كان في ضمان الجنايات غير العمدية، أي القتل الخطأ أو شبه العمد. ففي هذه الحالة كانت العصبة أولًا، ثم المعتِق، ثم ضامن الجريرة، وأخيرًا الإمام، هم الذين يتحملون دية المجني عليه. وقد فصّل الفقهاء هذه المسألة واختلفوا في مواردها وأحكامها.
إذا عدنا اليوم إلى القوانين المعاصرة، ولا سيما القانون الجزائي العراقي، فلن نجد أثرًا للعاقلة.
• أما العتق، فانتفى موضوعه بانتهاء نظام الرق.
• وأما العصبة وضامن الجريرة والإمام، فقد حلّ محلّها مبدأ المسؤولية الفردية؛ فالعقوبة شخصية، ولا يتحمل الجناية إلّا فاعلها، وهو وحده الذي يُعاقَب ويدفع ثمن فعله. هذا هو جوهر النظام الحديث المستند إلى الفلسفة الحقوقية المعاصرة.
• حتى في بعض الدول التي أبقت مواد عن العاقلة أو الإمام، كما في إيران، فإنها مواد مهجورة لا يُعمل بها، إذ لا الدولة تدفع الدية عن الجاني، ولا تُلاحق عشيرته، بل تلاحق المتهم نفسه فقط.
في ضوء ذلك، تأتي المادة (321) من المدونة الجعفرية لتقول:
(يجوز لمن ليس له وارث من النسب أن يتفق مع من يشاء على أن يضمن جريرته - أي جنايته - فيقول له: (عاقدتك على أن تعقل عني)، أي تدفع دية جنايتي، فيقول الآخر: (قبلت). فإذا مات الأول ورثه الثاني، أي ضامن الجريرة. وإذا وجد الزوج أو الزوجة مع الثاني كان له نصيبه الأعلى وكان الباقي لضامن الجريرة) .
إن هذه المادة تعيد إحياء نظام "ضامن الجريرة" الذي لا تعترف به بقية المذاهب الإسلامية، بل عدّته من الأحكام التي نُسخت في صدر الإسلام، هذا من جانب.
ومن جانب آخر - وهو الأهم - أن هذه المادة تعني العودة بالأسرة العراقية والفرد العراقي إلى زمن ما قبل الدولة، حين كانت العصبية القبلية هي الضامن الوحيد، ولم تكن هناك قوانين أو مؤسسات أو شركات تأمين. وبذلك تكون المادة (321) ليس فقط مخالفة صريحة للدستور العراقي، الذي يقوم على مبدأ المسؤولية الفردية والعقوبة الشخصية، بل "قهقرى" فاضحة إلى عصور ولّت وانتهت!!!
تنويه: لا يخلط بين ضامن الجريرة وأنظمة الضمان الحديثة؛ لأن هناك فارقا حاسما بينهما، وهو: في شركات التأمين يدفع الشخص اشتراكًا ماليًا مقابل الضمان، أما في ضامن الجريرة فالأمر مجرّد عقد ولاء ثنائي بلا عوض، فتأمل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram