صلاح نيازي
لهذه القصة القصيرة مكانة متميزة في الأدب العالمي، وهي من بين أفضل أربع قصص قصيرة كتبها مكسيم غوركي. قراءتها متعة a treat عاطفية وفكرية دائمة الخضرة.
بكرور الأيام تصبح من مدّخرات القارئ المعرفية.
بدأتْ علاقتي بهذه القصة قبل عقود يوم كنت يافعاً بُسْراً اتلمس طريقي في الادب والسياسة، كحاطب ليل، كما يقول المثل.
يقيناً دلّنا غوركي على اليسار العالمي وأحلام العمال، والواقعية السحريةmagic realism.
كذا اندفعت لقراءتها بحرص تلميذ فقير على النجاح. انبهرت. أخذتني حوادثها كلَّ مأخذ.
لم أتعرّفْ ساعتئذ، على أهم ما في هذه القصة من مفاتن، أي رموزها. من هذه الرموز مثلاً:
مدلول الشمس، مدلول البحر، مدلول الخريف مدلول اللون الذهبي. ..ألخ (سنعالج بعضاً من هذه الرموز فيما بعد).
لكنْ ربما أهم ما يميّز هذه القصة الاستثنائية تقنياتها الفنية، أي الحيل الفنية Devices تبيّن لي في القراءة الثانية، أنها قصة مرمّزة، وأسلوبها مدروز بهندسة أدبية بالغة الدقة" مثلاً ينتقل غوركي من فكرة إلى فكرة، ومن صورة إلى صورة، بآنسيابية باهرة، وكأنها ضربة لازب، أو من باب تحصيل الحاصل.
من تقنياته النادرة أيضاً استعمال الحواس الخمس من حيث توقيتها، كما هي الحال في حاسة اللمس، في نهاية القصة.
على ايّة حال، كان راوية القصة جالساً على الصخور مستمتعاً باللعب الكسول للشمس الخريفية المنهكة.
من هذا الخريف تنتقل القصة إلى خريف آخر في القفقاز. يشبهه الراوية بكاتدرائية فاخرة بناها حكماء عظام – هؤلاء آثمون عظام أيضاً. وحتى يخفوا ماضيهم عن أعين الضمير المحدقة، بنوا معبداً ضخماً من فيروز وذهب وزمرّد، وزيّنوا الجبال بأفخر السجاد المطرز بالحرير.
هكذا راحت الصور تتوالى، عندئذ نفث راوية القصة الجملة التالية:
"ما أجمل أن تكون إنساناً على الأرض. ترى أشياءَ عجيبة. كم هو مؤلم ولذيذ خفقان القلب أمام الجمال "وقال:
"أعترف أوّلاً بأنّ ثمّة لحظات صعبة تملأ الصدر بكراهة تطفح، ويمتصّ العذاب بشراهة دم القلب ولكن تلك اللحظات عابرة. حتى الشمس حزينة في أغلب الأحيان تنظر إلى المخلوقات البشرية. إنها كدّتْ كدّاً كبيراً من أجلهم، مع ذلك فإنهم مخفقون" هل الشمس هنا ظاهرة طبيعية أم رمز؟ أم يا ترى ثمة إشارة إلى هليوس إله الشمس في الأساطير اليونانية القديمة؟
(اعتمدت في دراسة هذه القصة على ترجمة: Frederic Ewen الإنكليزية) تبدأ قصة، مولد انسان بأسلوب بسيط بساطة التقاريرالصحفية:
"حدث هذا في سنة1892، سنة المجاعة بمنطقة بين سوخومي واتشمتشيري على ساحل كودو، قريبة من البحر بحيث يُسمَع من خلال مياه الجدول الجبلي الصافي تلاطم الموج المولول بوضوح".
هذه المقدمة منحوتة بإتقان. فحينما ذكر غوركي أن الحدث وقع "سنة 1892، سنة المجاعة" إنما ربما أراد ان يوهم القارئ أن ما يقرأه إنما هو وثيقة واقعية لا دخل للخيال فيها. وما ذِكْر المواقع الجغرافية ونهر كودر والبحر إلا لإكمال الواقعية الوثائقية.
من الطريف أن نجد في هذه المقدمة صدى خافتاً للمزمور42:7: "غمر ينادي غمرا عند صوت ميازيبك، كل تياراتك ولججك طمت عليّ".
عند هذا الحدّ تظهر أصوات بشرية خافتة. أربعة رجال وامرأة فلاحة حامل. إنهم عمال يعمرون الطريق بعيدا عن مدينتهم الأصلية. ومعهم أيضاً امرأة حولاء، وصوتها أول صوت بشري يُسمع
في قصة مولد إنسان. كانت تغني غناء حزيناً:
"قريبا من المقبرة
حيث تنمو شجيرات خضر
وعلى الساحل الرملي
سأفرش قطعة من القماش
قد يحدث
إذا انتظرت هناك سأراه
إذا جاء حبيبي
عندئذٍ سأنحني له".
أما صاحبة العصابة الصفراء فتغني:
"يا حبيبي، يا حبيبي،
آه حبيبي العزيز
مكتوب عليّ
أن لا أراك ثانية أبداً"
انتهى الامر بالمرأة الحولاء، انها مرضت، ونُقلت إلى مدينة أخرى. وماتت.
أمّا ذات العصابة الصفراء، فاختفت بين الآجام.
من الجدير بالذكر إن قصة مولد إنسان خريفيّة، بمعنى أنّ الخريف هنا ضارب أطنابه.
قوّة كاسرة جابرة. يحيي ويميت، يغير الألوان الحارة إلى باردة وبالعكس. يُكسي ويُعرّي.
الخريف هنا رمز وهو بلا شك أعتى رمز كلّيّ فجأة تأخذ القصة منحى جديداً، يتزامن فيه هبوب الريح من الجبال مع غيوم داكنة مثقلة بالمطر، مع أنين بشريّ واهن بين الأشجار.
إطالة المقدمة هذه قبل الوصول إلى عقدة القصة هنا مقصودة، لإثارة فضول القارئ وترقبه. وهذه التقنية ليست بدعة، وإنما ديدن اتبعه شيكسبير في معظم مسرحياته ولاسيّما الملك لير، حيث جنّد شيكسبير الريح عزيفها وصفيرها وصهيلها، ليزيد من زوابع الجنون في رأس الملك لير، كذلك فعل تي. أس. اليوت، في قصيدته المدهشة رحلة المجوس:"The Journey Of The Magi، فأصبح لمولد طفل صغير في مذود، خطورة جاءت من المسافة الطويلة التي قطعها الحكماء الثلاثة من بابل إلى بيت لحم. وليزيد إليوت من مشقة الرحلة جعلها في فصل الشتاء المثلج.
لم تفتْ هذه التقنية الشاعر الجواهري فظهرت على أشُدّها تأثيراً في قصيدته الملهمة "الفرات الطاغي".حيث يقاس حجم الفيضان وخطورته بالطير الهارب المذعور:
"وراعت الطائر الظمآن هيبته
فمرّ وهو جبان فوقه حذرُ"
أيّة مأساة هذه إذنْ. طائر خائف من الماء وهو ظامئ، وأحوج ما يكون إلى نغبة منه، ومحلّق تعِب وما من موطئ قدم.
قلنا أعلاه إن راوية القصة سمع أنيناً بشرياً فهبّ إلى مصدر الصوت، فإذا بالمرأة الفلاحة صاحبة العصابة الصفراء تجلس وظهرها مستند إلى جذع شجرة جوز، فاغرة الفم. عيناها جاحظتان وتتنفس بصعوبة.
اقترب منها، ولكنها صاحت:" أغرب عن وجهي يا عديم الحياء". بعد برهة أطلقتْ عويلاً طويلاً، وانحدرت من عينيها الموشكتين على الآنفجار، دموع على وجهها القرمزيّ المأزوم.
عاد إليها ثانية فلطمته على وجهه وعلى صدره. قالت له:
يا إبليس يا قاطع الطريق".
إنها متدينة أشد تديّن فكيف تبيح لرجل أن يرفع ثوبها ويرى فخذيها العاريتين.
المرأة تتلوّى مثل" لحاء شجرة البتولا على نار" راوية القصة مغمور بالرأفة "وكأن دموعها كانت تطفر من عيني"
أدارها على ظهرها وحنا ركبتيها."
أخيراً ها هو المولود بين يدي الراوية وهو أحمر في كليته
"... عيناه زرقاوان وأنفه مضغوط..." صاح بصوت ثخين على الرغم من أنّه كان ما يزال مربوطاًّ بأمّه... كان زلقاً. كنت سعيدا أن أراه.
همست الأمّ برقة، بينما عيناها مغمضتان ووجهها مسترخٍ.
- "اقطعه"
طلبت منه أن يقطع الحبل السرّي. في حين هي تقتلع الأعشاب الذابلة، وتدسّها في فمها.
كذلك تهيل التراب على وجهها المتمعج المخيف. وعيناها محتقنتان بالدم.
كان على راوية القصة أن يمنع ساقيها من التلوّي ويمنعها من وضع الأعشاب في فمها.
كيف يقطع الحبل السرّي؟ سكينته سُرقتْ فما كان منه إلا أن يقطعه بأسنانه.
كان مولد الطفل، حدّاً فاصلاً قبل وبعد مجيئه. أي قبل الميلاد وبعد الميلاد، إذا جاز لنا استعارة المصطلح الديني.، ذلك لأن قصة غوركي موشحة بالدين ولا سيّما الأمّ.
فعلاً تغير كل شيء. لا أثر للخريف بعد الميلاد. ولكن أهمّ من ذلك ان اللغة بين الشخصيتين الرئيستين؛ الأم وراوية القصة تغيرت.
كانت لغة الأمّ رادعة، خادشة، نافرة. رمت راوية القصة بكلّ خطيئة.. إنها الآن هي غيرها. ها هي مبتسمة، بعد احتساء الشاي من يدي راوية القصة. (الابتسامة رمز يعني هنا أيضاً الانتقالة من مرحلة إلى مرحلة) أكثر من ذلك، إنها لم تعترض حتى حين فتح قميصها وساعدها في إخراج ثديها، ووضع الطفل على جسدها الدافئ.
ابتسمت الأمّ آبتسامة بهيجة علامة الشكر ورفعت يدها المجهدة، ورسمت علامة الصليب عليها وعلى طفلها.
أمّا الراوية فراحت " تزغرد في حناياه طيور جميلة مع صوت هدير البحر.
يقول:" كان ذلك مدهشاً لدرجة أنني فكّرت أن بإمكاني أن أستمع لتلك الموسيقى لمدّة عام دون انقطاع. وكان الجدول بخريره أشبه ما يكون بفتاة تخبر صديقتها عن معشوقها".
مما يستوقف النظر هنا أيضاً التشبيه الموحي:" بفتاة تخبر صديقتها عن معشوقها" وأهمّ من ذلك توقيته. هل هذا تمهيد لعلاقة حميمة خاصة بينهما؟
ظهرت بوادر هذه العلاقة الصافية حينما اجتمعا على فنجان شاي.
دارت بينما مسامرة حميمة. وهو من أجمل مقاطع القصة.
الأمّ وهي الأرملة تسأل الراوية: "هل أنت متزوج؟" أمّا هو فيسألها هل هذا
الطفل وليدك الوحيد. وبعد سؤال وجواب وسؤال وجواب كان ثمة نسيج
علاقة دافئة من نوعٍ ما يتشكّل بينهما بانسجام.
مع ذلك قررت الأمّ اللحاق برفاقها، رغم ما تعانيه من آلام الولادة. سار الراوية
إلى جانبها "كتفاً إلى كتف"، والطفل على صدرها. أغرب زفاف خاص.
لكنّ خشيت الأمّ أن تقع من التعب والإجهاد، فوضعت يدها على كتفه، وكأنها علامة لتوحّدهما، ودليل على ثقتها به.
"بين الحين والحين تتوقف الأمّ لاستنشاق نفسٍ عميق. ثمّ ترفع رأسها وتنظر هنا وهناك، إلى البحر، إلى الغابة، إلى الجبال ومن ثّمّ تنظر بسرعة إلى آبنها بفضول. كانت عيناها مغسولتين تماما بدموع العذاب، ومرة أخرى باتتا
صافيتين، ومرة اخرى متفتحتين، ومتقدتين بنار زرقاء لحبّ لا يفنى".
في المقطع أعلاه شيء من عبقرية أسلوب غوركي. ما الذي
خالج الأمّ وهي تنتقل وبسرعة، إلى النظر إلى ابنها بعد أن كانت تنظر إلى أحجام كبيرة، كالبحر، ثم الغابة، فالجبال؟ بهذا التوقيت الدقيق من النظرات ينتقل المؤلف بانسيابية إلى عينيها المغسولتين بدموع العذاب والمتقدتيْن بنار زرقاء من حبّ لا يفنى.
لا عجب انْ توقفت الأمّ لتختم "مولد إنسان" برهافة شعرية عالية:
"يا إلهي، ربّي العزيز! ما ألطف كلّ هذا، ما ألطف! باستطاعتي أن أسير هكذا إلى نهاية العالم، وطفلي الصغير سيكبر وسط الوفرة قرب ثدي أمّه، حبيبي..." ...كان البحر يهدر... "
ولادة انسان - مكسيم غوركي

نشر في: 10 سبتمبر, 2025: 12:01 ص









