لطفية الدليمي
كانت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007-2008، وما أعقبها من ركود واستقطاب اقتصادي، بمثابة تذكير قاسٍ بحقيقة عبثية ان نترك إقتصادنا للإقتصاديين المحترفين وغيرهم من "التكنوقراط" ليتلاعبوا فيه كما يشاؤون. يجب علينا جميعًا أن نشارك في إدارة الإقتصاد كمواطنين اقتصاديين فاعلين. بالطبع، هناك "ما ينبغي فعله" وهناك "ما يمكن فعله".
الإقتصاد في أبسط وأدقّ تعريفاته هو علم القوّة The Science of Power، ولأجل ذلك اصبح من الحتميات الواجبة أن يمتلك كل مواطن حقيقي في مجتمع محترم شيئاً من المعرفة بأساسيات الإقتصاد تأريخاً ونظريات وسياسات فاعلة. قدمت في موضوعاتي المنشورة تأكيداً متزايداً على أهمية المعرفة الإقتصادية. هذه هي بعض طبيعة العصر الذي نعيشه والتي تفترض معرفة بالمفاصل الستراتيجية التي تحكم عالمنا. غالباً ما يحصلُ فهم الإقتصاد من البوّابة الكلاسيكية: الدخل والوظائف والمعاشات التقاعدية وما إلى ذلك من موضوعات؛ لكنّ الإقتصاد أبعد من هذه الموضوعات. إذا أردنا إصلاح الإقتصاد لصالح الأغلبية، وجَعْلَ سياساتنا الحكومية والمجتمعية أكثر فعالية، و العالم مكانًا أفضل للعيش لنا وللأجيال القادمة، فعلينا ضمانُ بعض المعرفة الإقتصادية الأساسية لكلّ فرد فينا.
كثيرٌ من البشر منهك جسدياً تماما نتيجة الصراع اليومي من أجل البقاء، ومنشغلٌ ذهنياً بشؤونه الشخصية والمالية. قد يبدو احتمال القيام بالجهد اللازم لكي يصبح المرء مواطناً اقتصادياً نشطاً - أي تعلّمُ أساسيات الإقتصاد، والإنتباه إلى ما يجري في الإقتصاد - أمراً شاقاً ومخيفاً. مع ذلك فإنّ القيام بهذا الإستثمار في الجهد والوقت أسهلُ بكثير مما نظن. الإقتصاد أسهل فهماً بكثير مما يُقنعنا به العديدُ من الإقتصاديين. هذا ما يخبرُنا به أستاذ الإقتصاد في جامعة كامبردج ها-جوون تشانغ Ha-Joon Chang في كتابه المعنون 23 Things They Don’t Tell You About Capitalism، المترجم الى العربية، حيث أثار غضب بعض زملائه المهنيين بإعلانه أن 95% من الإقتصاد قائمٌ على البداهة السليمة Common Sense التي يُضفى عليها تعقيد باستخدام المصطلحات والرياضيات والإحصاء؛ بينما يُمكن فهم الـ 5% المتبقية في جوهرها (إن لم يكن بتفاصيلها التقنية الكاملة) إذا شُرِحَ الأمر بكيفية جيّدة من قبل معلّم شغوف يتحلى ببصيرة كافية.
ما أن تكتسب فهماً أساسياً بكيفية عمل الإقتصاد، تُصبح مراقبة ما يجري أقل تطلباً من وقتك واهتمامك. وكما هو الحال في العديد من الأمور الأخرى في الحياة - تعلُمُ ركوب الدراجة، أو تعلّمُ لغة جديدة، أو تعلّمُ استخدام جهاز الكمبيوتر اللوحي الجديد - يُصبح كونُكَ مواطناً اقتصادياً فاعلاً أسهل بمرور الوقت بعدما تتدرّبُ على تجاوز الصعوبات الأولية والإستمرار في ممارسة هذا التجاوز. ليس عليك القيام بذلك بمفردك. إنّ التحدّث مع عائلتك وأصدقائك حول القضايا الإقتصادية اليومية – سواءٌ أكانت وظائف أو تضخماً أو أزمات مصرفية - سيُثري معرفتك ويُصقل حججك. في هذه الأيام، هناك مجموعاتٌ ناشطةٌ تُقدم عبر الإنترنت دروساً في الإقتصاد للمواطنين العاديين، وهذه الدروس كفيلة بجعل المسعى الذي يبذله المواطنون العاديون لتعلم الإقتصاد والتفكير فيه أكثر تشويقاً ومتعة.
ها- جوون تشانغ Ha-Joon Chang: عالم اقتصاد بريطاني من كوريا الجنوبية، متخصص في اقتصاديات التنمية. يعمل أستاذاً في الإقتصاد السياسي للتنمية بجامعة كامبريدج. في عام 2013 صنّفت مجلة Prospect تشانغ كواحد من أفضل 20 مفكراً عالميًّا. ألّف العديد من الكتب التي حققت مبيعات كبرى، منها الكتب الثلاثة التالية المترجمة إلى العربية:
- السامريون الأشرار: أسطورة التجارة الحرّة والتاريخ السرّي للرأسمالية
- 23 شيئًا لا يخبرونك بها عن الرأسمالية
- الإقتصاد: دليل المستخدم
كتابه الأخير تُرجم إلى العربية عام 2024 تحت عنوان (دليل المسترشد إلى علم الإقتصاد).
يبدأ تشانغ كتابه بعبارة لافتة: "الإقتصاد الكلاسيكي الجديد (أو ما يسمّى بالنيوكلاسيكية) ليس المدرسة الوحيدة الحاكمة للإقتصاد العالمي". ثمّ يؤسّسُ على هذه العبارة حقيقة مفادُها عدمُ انفراد نظرية اقتصادية بالتفوّق على غيرها من النظريات، واستطراداً لا توجد حقيقة موضوعية يتّفق عليها جميع الإقتصاديين. لا يمكن للإقتصاد أن يكون علماً كما هي الفيزياء؛ إذ لا يمكن التوصل إلى إجماع حول أسئلته الأساسية، ناهيك عن تحديد إجاباتها. لا يبحث تشانغ عن صيغة اقتصادية جاهزة. هو يجادل مطوّلاً في الكتاب بأن الاقتصاد في جوهره هو سياسة؛ وبالتالي لا ينبغي لنا أن نفكّر من منظور بلوغ إجابة مثالية. النقاش في الإقتصاد ساحة مفتوحة على شتى الإحتمالات كما هو حال السياسة، ولن ينتهي هذا النقاش أبداً.
إذا كان هناك معنى لـ"فشل" الإقتصاد، وهو الموضوعة الأكثر أهمية لكلّ مواطن وحكومة في العالم كما يجادل تشانغ، فإنّ هذا الفشل ليس مردّه أنّ الإقتصاد كان ينبغي عليه "التنبؤ" بالانهيار والكوارث التي شهدتها السنوات الماضية. فشل الإقتصاد لأنّ تعددية الرؤى فشلت. نشأ مشهدنا الإقتصادي الحالي تأسيساً على قبول بعض المبادئ الأساسية: الفرد أناني تماماً، وعقلاني تماماً، وقادرٌ على خلق أسواق مثالية من خلال العمل بما يخدم مصالحه الخاصة. هذه الخلطة المشتبكة من الرؤى المتنافسة فشلت ولم تتحقق في الواقع، وقد تجاهلناها وعانى الإقتصاد العالمي بسبب ذلك.
تشانغ في هذا الكتاب يجعل التاريخ الإقتصادي والنظريات الإقتصادية سلسلة سرديات متّصلة سببياً بطريقة تثير شهية القارئ للمتابعة والقراءة الجادّة. يستعرض تشانغ في فصل "كيف وصلنا إلى هنا؟" قروناً من التاريخ، مُقسّماً تاريخ العالم المتقدم إلى عصور مختلفة: الثورة الصناعية، والاضطرابات (1914-1945)، والعصر الذهبي (1945-1973)، وفترة خلو العرش (1973-1979)، ثم من عام 1980 حتى يومنا هذا. يُقدّم هذا شرحاً مُلفتاً وسريعاً لكل شيء، مُتناولاً النمو Growth الذي كان بطيئاً بشكل مؤلم خلال القرون القليلة الأولى، وشروط نجاح التجارة الحرة (وما تعنيه الحرية في الواقع وهو "التوجّه نحو الأقوى")، وحتمية نشوب حرب عالمية أولى لأنّ نمو الفترة التي سبقتها كان قائماً على السياسة الإمبريالية لا الإنتاج الوطني، وتأثير الكساد الكبير على الفكر والسياسة. يحرص تشانغ في ثنايا تاريخه الإقتصادي أن يتناول موضوعات أساسية على شاكلة: ماذا يعني ارتفاع معدلات البطالة؟ ما هي مؤسسات بريتون وودز، ولماذا أُنشئت؟ ما نجاحات التجارة الحرة والسوق الحرة، وما هي حدودهما؟ لماذا تُعتبر كلمة "ليبرالي" مُربكة إلى هذه الدرجة؟ ماذا حدث بالفعل للدول المنضوية في الكتلة السوفييتية في نهاية الحقبة الشيوعية؟ يرسم تشانغ خريطة المنطقة بوضوح، بل وأكثر من ذلك: يُحوّلها إلى أرض تستمتع باستكشافها.
أرى أن القسم المحبّب في كتاب تشانغ هو ذلك المعنون "دع مئة زهرة تتفتح" حيث يصف المدارس الفكرية التسع الرئيسية في الإقتصاد، ثم يُطلق تسميات جديدة، يُمكنك استخدامها، إن شئت، لوصف نفسك. تكثر مراجع المؤلف الثقافية غير المعتادة في الكلاسيكيات المرجعية الإقتصادية، وتلك ميزة حقيقية في الكتاب. المدارس التسع التي تناولها تشانغ هي النمساوية، والسلوكية، والكلاسيكية، والتنموية، والمؤسسية، والكينزية، والماركسية، والكلاسيكية الجديدة، والشومبيترية. في نهاية الفصل يرسم تشانغ مخططاً عملياً في كيفية المزج وتعظيم الفائدة من هذه المدارس.
يمكننا استخدامُ كتاب تشانغ كدليل تمهيدي، أو مرجع، أو تاريخ موجز؛ فهو يصلح لخدمة كلّ هذه المساعي الفكرية، ولكنه لا يقتصر عليها. إنه يعكس كرم مفكرٍ اقتصادي تتملّكه رغبةٌ في أن نفهم جميعاً أساسيات الإقتصاد لا كمنظومة نسقية تقنية كلاسيكية بل كنظريات مدفوعة بفواعل إجتماعية وأخلاقية مركّبة، وفي هذا تكمن فرادة الكتاب وقيمته النوعية المتفوّقة.
المعرفة الاقتصادية تسّهل حياتنا!

نشر في: 10 سبتمبر, 2025: 12:02 ص









