ترجمة: عدوية الهلالي
بعد فوز فيلمه "جولي" بجدارة، والذي أوصله إلى جوائز الأوسكار، غادر يواكيم ترير مهرجان كان حاملاً الجائزة الكبرى عن فيلمه الجديد: "القيمة العاطفية"الذي رسّخ المخرج النرويجي مكانته من خلاله تدريجيًا في كان. فمع فيلمه الأخير، توزع ابداع المخرج بين دقة تصويره، ونهجه في التعامل مع قصة الفيلم، ودقة إخراجه للممثلين (ريناتي راينسفي، ستيلان سكارسجارد، إنغا إبسدوتر ليلياس، إيل فانينغ) فكل ذلك موجود بكثافة مذهلة. ويعرض هذا الفيلم حاليا في دور العرض السينمائية.
من خلال مقال قديم لنورا (ريناتي رينسفي)، يُجسد منزل طفولتها الكبير، نستعيد ما يقرب من قرن من وجود عائلتها في هذا المبنى الذي جسّد أفراح وأحزان أجيال عديدة. وهكذا، يبدأ الفيلم بأحدث فراغ في المبنى: وفاة والدة نورا وشقيقتها أغنيس (إنغا إبسدوتر ليلياس). في هذه المناسبة المشؤومة، يحاول والد المرأتين (ستيلان سكارسجارد) بشق الأنفس العودة إلى حياتهما.
في الفيلم، تلتقي أغنيس ونورا بوالدهما بعد غياب طويل وهو مخرجٌ مشهور، فيعرض على نورا، الممثلة المسرحية، دورًا في فيلمه المقبل، لكنها ترفض رفضًا قاطعًا. ثم يعرض الدور على نجمة هوليوودية شابة، مما يُعيد إلى الأذهان ذكريات عائلية مؤلمة.ويحاول المخرجٌ المشهورٌ رغم توقف مسيرته الفنية، صنع فيلمٍ في منزل العائلة ليروي قصته بشكلٍ غير مباشر، مع إشراك نورا في مزيجٍ من التأمل الذاتي والخلاص غير المرغوب فيه. وهذا يُعيد فتح جراحٍ غائرةٍ في مكانٍ اتسم بالمعاناة، مُمثلاً بتصدعٍ في أساساته، وسينهار لا محالة بمرور الوقت.
قد تبدو الفكرة رمزية للغاية، لكن يواكيم ترير يُدرك ما يفعله. فبينما يُضفي جمال تصويره بتقنية 35 ملم لمسةً من الباستيل الخفيف على عالمه البصري، يتمحور الفيلم حول التوازن بين طبيعة مواقفه الحالمة والعودة الملموسة إلى الواقع، والتي تتميز بمقاطع سوداء مفاجئة. يُنظر إلى مفهوم المنزل على أنه فوضى هشة، سواء من قِبل المخرج أو من قِبل شخصياته، مُدركين الثقل الرمزي لمنزلهم العائلي والشحنة الكامنة في جدرانه.
في هذا التردد يكمن جمال الفيلم، حيث لا يقتصر الأمر على رؤية فنان مُسن يُقدم نوعًا من الاستعادة لحياته بناءً على السيناريو الذي طالما راوده. بل على العكس، يُكرر غوستاف بورغ باستمرار أن مشروعه (الذي يدور حول أفكار انتحارية لأم شابة) لا يتعلق بوالدته التي شنقت نفسها بين هذه الجدران الأربعة عندما كان شابًا.
تندمج العصور، لكن الصدمات تبقى وتتشارك، وبينما ترفض نورا، الممثلة المسرحية المرموقة،الدور الرئيسي فهذا لا يمنع عودة والدها الغائب من إيقاظ ندوب الماضي، مما يطرح باستمرار تساؤلات حول دوافع غوستاف. هل يسعى لفهم أفعال والدته من خلال فيلمه؟ أم يسعى لإعادة التواصل مع نورا وشقيقتها أنييس من خلال فنه؟ أم يأمل في الغفران؟
إلى جانب الكتابة الرائعة التي تحوّل أبطال العمل إلى وجوه متغيرة، هنالك لغز شيّق يستحق التحليل (تعاون ترير مرة أخرى مع الكاتب المشارك إسكيل فوغت)، ويعتمد كل شيء على جوهر اللقطات والمونتاج، حيث تكشف كل لقطة وكل رابط عن قطيعة أو تقارب في هذه العلاقات الإنسانية المعقدة. يُلفت الانتباه جمال بعض اللقطات المعكوسة (خاصةً قرب النهاية)، والتي تحمل في طياتها قوة ما هو خفيّ.
كلنا نعرف أن يواكيم ترير مخرجٌ بارعٌ للممثلين، لكن "القيمة العاطفية" تُضفي عليه بُعدًا آخر، تحديدًا لأن شخصياته تسعى جاهدةً لتقديم أداءٍ مُتميز، من خلال تحليل مشاعرها ومشاعر الآخرين، ليكونوا أكثر قدرةً على الانغماس في المأساة. ويستقي المخرج من هذا كوميديا سوداء فعّالة، بالإضافة إلى تحليلٍ نفسيٍّ فنيٍّ بلمساتٍ هيتشكوكية. فبعد رفض نورا المشاركة في بطولة فيلمه، يلجأ غوستاف إلى النجمة الأمريكية رايتشل كيمب (إيل فانينغ)، التي يحاول إعادة تشكيلها كدمية خرقاء.
في هذه الأجواء العاطفية، يكشف نداء الهاوية في النهاية لعائلته الثلاثية حقيقتهم. فمن الصعب تخيّل أي شيء أكثر تأثيرًا هذا العام من هذا الحوار المباشر بين نورا وآنييس حول أدوارهما كأختين، والاختلافات والندم الذي يطبع حياتهما (آنييس اعتزلت التمثيل وفضّلت تكوين أسرة).
لقد أكدت ريناتي راينسفي موهبتها الساحرة في فيلم "جولي"، كما يُذكّرنا ستيلان سكارسجارد، بجاذبيته التي لم يسبق لها مثيل، وبمدى براعته كممثل، بينما تُقدّم إنغا إبسدوتر ليلياس أداءً مُبهرًا. وهذه الشخصيات الثلاثة تُقدّم فيلمًا قويًا يتناول صعوبة التواصل، والاستماع إلى الذات والآخرين.
سينمافيلم (القيمة العاطفية) الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان: صعوبة التواصل والاستماع الى الذات والآخرين.. بلمسات هيتشكوكية
فيلم (القيمة العاطفية) الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان: صعوبة التواصل والاستماع الى الذات والآخرين.. بلمسات هيتشكوكية

نشر في: 11 سبتمبر, 2025: 12:01 ص









