TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: اللحظة التي تُغير حياة الانسان

باليت المدى: اللحظة التي تُغير حياة الانسان

نشر في: 15 سبتمبر, 2025: 12:05 ص

 ستار كاووش

يُقال أن في حياة كل إنسان يولد موقف أو حدث يُؤدي الى إنعطافة أو تغيُّر جذري في حياته، ويصبح شخصاً مختلفاً وربما يغدو انساناً آخر تماماً غير الذي كان عليه في السابق. نعم، يمكن أن تؤثر اللحظات العظيمة على حياة الانسان وطريقة تفكيره، سواء كانت هذه اللحظات مليئة بالفرح أو الألم. ونحن عموماً نمضي مع حياتنا في الغالب بطريقة تقترب من الرتابة والتعود على القيام بذات الأشياء دون التفكير بالتفاصيل العميقة، وفوق هذا نتوقع أن حياتنا ستبقى هكذا الى الأبد. حتى تأتي هذه اللحظة التي تحرك شيئاً بداخلنا وتُغير نظرتنا للحياة وما نقوم به.
تُرى هل كل أفكارنا صحيحة؟ وهل نسير على الطريق المناسب؟ أم أن هناك طرقاً أخرى تقول الحقيقة؟ وفي النهاية هل يمكن للإنسان أن يتغير بشكل كامل؟ وهذا التغيُّر، هل يؤدي للأفضل أم العكس؟
خطرت ببالي هذه التساؤلات وأنا أفكر بالكولومبي الفارو مونيرا، الذي تحول من أحد أهم مصارعي الثيران عبرَ التاريخ، الى واحد من أكبر المدافعين عن هذه الحيوانات وما تلقاه على يد الانسان من قسوة ووحشية. هكذا تغيرت أفكار هذا المصارع الذي صالَ وجالَ وسط الساحات وهو يغرز رماحه وسيوفه في أجساد الثيران المسكينة، لكن اللحظة لابد أن تأتي، والشمس التي تجلب الصحو لابد أن تشرق وتدفيء الروح. مع ذلك فهذا التغير لم يمر هكذا بسهولة ودون عقبات، فبالنسبة للكثير من مصارعي الثيران والمؤسسات التي تُشرف على السباقات صار الفارو خائناً إنقلبَ على تقاليده وطبيعة إيمانه وتفكيره، وتخلى عن تاريخه (العظيم) ومكانته المجيدة. والحق أن هذا المصارع قد حقق في فترة قصيرة ما لم يحققه كل مجايليه، ونالَ (مجداً) لا يوصف من خلال عروضه العديدة في اسبانيا وامريكا اللاتينية. لكن اللحظات العظيمة يمكن أن تقول كلمتها أيضاً، وهكذا حدث ما حدث وإنقلبَ سحر ساحات المصارعة على شركات المراهنات ومنظمي العروض، وصار الفارو عدوهم اللدود بعد أن كان بالنسبة لهم الدجاجة التي تبيض ذهباً.
حين دخل الفارو الى آخر عروضه لم يكن يعرف طبعاً بأنه سيتوقف بعد هذا النزال الى الأبد، حيث دخل بأناقته وملابس الماتادور التي جعلت منه بطلاً، وهكذا ابتدأ صراعه مع الثور الكبير كأنه يمثل مشهداً سينمائياً باهراً، الثور يهجم والفارو يلتف بأناقة ويغرز السهام في أنحاء جسده، وقد حاولَ الثور أن ينقضَّ عليه مراراً، لكن الفارو كان في كل مرة يلتف بجسده ويتحاشى ذلك كأنه شبح. حتى جاءت اللحظة التي توقف فيها الثور بطعناته القاتلة، ومضى بخطوات ثقيلة نحو المصارع المنتشي كالعادة، إقترب الثور من ألفارو الذي كان يمكنه الإجهاز عليه تماماً بطعنة أخيرة، لكن إلتقت عيناهما معاً، نظر الفارو بعيني الثور الذي بدا مترنحاً وعلى وشك السقوط، لكنه بدل من أن يخرَّ ساقطاً انطلق بحركة أخيرة خاطفة نحو الفارو ونطحه بقرنه بطريقة غير متوقعه. سقط المصارع على الأرض محاطاً بدماءه ومضى الثور المدمى أيضاً نحو الجهة الأخرى من الملعب. سقط الثور في الزاوية البعيدة ، فيما لم يستطع الفارو النهوض بعد أن كُسر ظهره بسبب طعنة الثور الأخيرة. ركض المساعدون بسرعة، ليس نحو الثور المسكين طبعاً، بل نحو الفارو الذي تضمخت ملابسه الملونة الجميلة بدماءه ودماء الثور، ونقلوه بسرعة الى المستشفى، وهناك ظل راقداِ فترة من الوقت، وكانت النتيجة هي الشلل للنصف السفلي من جسده.
أفاق الفارو من الصدمة متأملاً الحقائق القاسية ومتساءلاً مع نفسه: ماذا فعلتُ بنفسي؟ أو بالأحرى ماذا فعلت بمئات الثيران التي قتلتها؟ عليَّ القول بأني أستحقُ ما حصل لي بالفعل. وهنا حدثَ التحول الذي جعله يصبح واحداً من أكبر المدافعين عن هذه الحيوانات المسكينة، ومنادياً برفض هذه الرياضة الوحشية. ولم تتوقف جولاته أبداً وهو يقدم المحاضرات في أماكن مختلفة من العالم ويخبر الآخرين بأن التوقف عن أذية الانسان والحيوان أهم من أية تقاليد، ولا يجب أن يراق الدم من أجل المتعة.
وما يجعل آراء ومواقف ألفارو موثوقة وصادقة، هو كونه مصارع ثيران سابق، وقد شاهدَ بأم عينه كيف تملأ الدماء ساحات المصارعة دون ذنب، ورأى أجساد الثيران تُسحل خارج أماكن العرض دون ضمير، لذا فهو ليس بياع كلام ولا باحثاً عن الشهرة. تحية لألفارو الذي توقفَ العالم عن التصفيق له وسط ساحات المصارعة، وصار يصفق لمواقفه التي ألهمت آلاف الناس حول العالم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram