شربل داغر
قلمُ العزاوي، أو ريشته، لا يتوانيان عن تشكيل ما يعتقد أنه واجبُ الحضور، واجبُ الصورة، في المآسي والجرائم والحروب التي تُبدد وجوه المسحوقِين تحت دبابات الغصب والاحتلال، لا سيما من تختفي ملامحهم في جرائم ذات كواتم للصوت.
العزاوي يقيم في لندن منذ ما يقرب من خمسين سنة، من دون أن يكون منفيًّا، إذ إنه يحمل وطنه (الضيق والمتسع) معه أينما يكون، أينما يرسم. وفي هذا الوطن الذي صاغَه لنفسه، لا يترك صديقًا في سجنه، ولا محكومًا أمام منصة إعدام، ولا يترك صبية تنتظر غروب كل يوم وصول حبيبها البعيد في بغداد... إنها القوة التي يسبغها الفن على البشر، والتاريخ، والراهن. فالفن، أيًّا كان موضوعه، احتفاءٌ بالحياة، بل هو حياة مزيدة. إنها القوة تغتذي ممّا تعيش، وممّا تأمل به. تغتذي من قدرتها على توليد الشكل، ومن انبثاق اللون، بما يغوي العين، ويجعل مشهد البشر في اللوحة مشهدًا جماليًّا. حتى الألم، في الفن، له أن يكون جماليًّا! حتى الصرخة، في الفن، لها أن تكون جمالي! فكيف إذا كانت للحياة أعيادها، وأفراحها، وموائدها المبسوطة، في فسحات اللون المشرقة، وفي أهازيج الشكل الغنائية!
مع العزاوي، في فنه التعبيري، دعوةٌ إلى الحياة من تحت الركام الدامي، وصرخة للحرية في جلاء البناء التشكيلي. إنه عالَم العواطف المتقدة أبدًا.. إنه عالَم العزاوي.
من يَعد إلى أعمال العزاوي الأولى، سيجد أن انتظام البناء الفني لم يتغير إلا في القليل منه: دومًا أشكال واقعة بين التشبيهي التقريبي والتجريدي التقريبي، هو الآخر؛ وقد يطغى هذا الجانب أو ذاك في هذا العمل أو ذاك. الجانب التشبيهي تقريبي، ما دام الفنان لا يصور الجسم (أو الوجه) بتمامه، وإنما بهيئة مفتَّتة بعض الشيء، غير تامة : أقرب إلى أجسام جياكوميتي (وإن كان الشبه بعيدًا)، منها إلى "عضلية" الجسم وتجليه التام في منحوتات ولوحات ميكيلنحيلو أو غيره من فناني "النهضة" الإيطالية. وهو، في هذا، يقترب من النصب والهيئات في المخزون الرافديني، حيث الجسم (كما الهيئة) تقريبية. هذا ما يمكن قوله كذلك في الجانب التجريدي من البناء، حيث إنه يرسم أشكالًا وكتلًا، من دون أن تتمثل في أشكال هندسية، ذلك أن قُربَه من التجريد يعني قربَه من الزخرفة، من المنوال في صناعة النسيج الشعبي، ومن تشكلات الكتابة العربية.
بهذا المعنى، إن فن العزاوي، في جانبَيه البنائيين، يماشي ما كان قد تجلى في "جماعة بغداد"، لا سيما مع جواد سليم، لكنه يصوغه وفق معادلة ابتناها العزاوي بنفسه ولنفسه، من دون أن يحيد عنها. وهي معادلة أقامَها في محترفه، ولكن بعد أن توجه بالحوامل المادية لفنه إلى خارج المحترف، إلى النافذة المفضية على التاريخ، والزمن. وإذا كانت رؤيا "جماعة بغداد" ثقافية (حضارية وحديثة وفق لفظ بيانها الأول)، فإن العزاوي كان أقرب إلى خيارٍ قوامُه: الحضور والفعالية في الراهن. هو فنان أقرب إلى صيغ الحضور لدى فنانين في العالم ابتداء من النصف الأول من القرن العشرين مع: بيكاسو وجياكوميتي ودو بوفيه وغيرهم. وهو، في هذا، فنُّ النبض الحيوي، فن الراهن، فن صخب البشر، العامر بوعوده وأحلامه ومآسيه وعسفه.
يؤكد العزاوي، منذ بدايته: "أنا كونٌ يَتسع لكل حوادث العالم. أبحث في الزحام الهائل عن الأبطال الفقراء". وهو ما توانى عن العمل وفق هديه هذا، وقد زادت إقامته الممتدة في لندن من شدة هذا المنحى التعبيري. وهو ليس بشاغل سياسي فقط، وإنما هو شاغل تاريخي يُعنى بأحداثه الجسام، ولا سيما بعتمته المصاحبة لانسحاق المغدورين وصمتهم. وهذا ما يكون بالتالي شاغلًا إنسانيًا، يُعنى بإخراج المسحوقِين من أقبية الدمار المنسي. وإذا كان هذا الفن يحمل صرخة العراقي، والفلسطيني، الخافية أو المكتومة، فإن هذا الصراخ العالي لا يطاول فقط الأميركي، والإسرائيلي، وإنما يطاول العراقي نفسه، والعربي نفسه، ممن أخرسوا الحناجر بقمعهم واستبدادهم، وممن وجَّهوا حراب فتكهم إلى شعبهم.










