علي بدر
يأتي معرض ضياء العزاوي الأخير في بيروت، المعنون "شهود الزور"، في لحظة مفصلية ليس فقط في مسيرة الفنان، بل في تاريخ التلقي العربي للفن التشكيلي الحديث. فالعزاوي، الذي تجاوز عقده السابع، لا يزال يقدّم نفسه بوصفه شاهدًا ومشاركًا في آن، يحوّل المأساة العراقية والفلسطينية والعربية عمومًا إلى خطاب بصري يتجاوز حدوده الجمالية ليأخذ موقعه داخل المجال السياسي والثقافي.
منذ انخراطه المبكر في مسيرة الفن الحديث، كان العزاوي حريصًا على أن يربط الفن بالسياق التاريخي، وأن يردم الهوة بين التراث البصري الرافديني–الإسلامي من جهة، وتجارب الحداثة الأوروبية من جهة أخرى. في "شهود الزور" يظهر هذا الخيار واضحًا: اللوحات والجداريات العملاقة لا تُقرأ باعتبارها تكوينات تجريدية باردة، بل بوصفها نصوصًا متوترة، مشبعة بالدلالات، تقترح قراءة مضادة لخطاب الهيمنة السياسي والإعلامي. اللون الأحمر هنا ليس مجرد رمز تعبيري، بل هو استدعاء لذاكرة الدم والجسد المقموع، فيما الخطوط السوداء الغليظة تحوّل هيئة الإنسان إلى أثر، إلى شاهد منقوص، إلى علامة على الغياب بقدر ما هي علامة على الحضور.
إن المعرض، من خلال عمله التركيبي المركزي الذي يشبه خريطة محفورة في الخشب، يدخل المتلقي في مواجهة مباشرة مع فكرة المدينة/المقبرة. فالسطح المحفور ليس فقط تمثيلًا معماريًا، بل هو كتابة في الذاكرة الجمعية عن كيفية تدمير المدن وتحويلها إلى خرائب. بهذا المعنى، فإن العزاوي يواصل مشروعه الذي بدأه منذ سبعينيات القرن الماضي: تحويل الفضاء التشكيلي إلى أرشيف مضاد، يسجل ما تحاول السلطة طمسه أو إنكاره.
القيمة الأساسية لضياء العزاوي تكمن في قدرته على الجمع بين موقفين متوازيين: موقف الفنان الذي يتقن أدواته التشكيلية، وموقف المثقف الذي يعي دوره التاريخي. فمن الصعب قراءة أعماله بمعزل عن خطابه السياسي الواضح، إذ إن كل لوحة عنده هي بيان، وكل جداريّة هي نص احتجاجي. غير أن هذا الخطاب لا يلغي البعد الجمالي، بل يعمّقه: الألوان الصاخبة، التكوينات الحادة، التقطيعات الهندسية، كلها تشير إلى وعي بصري رفيع يُدخِل العنف في نسيج اللوحة من دون أن يحوّلها إلى مجرّد ملصق سياسي.
إن حضور العزاوي داخل الفضاء العراقي والعربي يطرح سؤالًا أوسع عن وظيفة الفن في سياقات ما بعد الكولونيالية والحروب الأهلية. فهو يمثّل نموذج الفنان–المثقف، الذي يرى في الفن وسيلة لتأريخ الهامشي والمقموع، ولإعادة الاعتبار للذاكرة الجماعية في مواجهة التدمير المادي والمعنوي. لذلك ليس غريبًا أن يحظى معرضه في بيروت بهذا الاحتفاء، إذ يُقرأ كجزء من مسار مستمر، لا كحدث فردي.
في "شهود الزور"، يعيد ضياء العزاوي تذكيرنا بأن اللوحة ليست مجرد سطح للتأمل الجمالي، بل هي أيضًا ساحة صراع على المعنى، وأن اللون يمكن أن يكون أداة سياسية بقدر ما هو أداة تشكيلية. بهذا، يضعنا المعرض أمام أطروحة جوهرية: أن الفن، في سياق العنف والخراب، لا ينفصل عن الشهادة، بل يتحوّل إلى شهادة بصرية بامتياز، توثّق وتحتج وتستشرف في آن واحد.










