عصام الياسري
تعد الانتخابات البرلمانية في أي دولة مدنية أو نظام ديمقراطي حقيقي حجر الزاوية، كونها الأداة التي من خلالها تتجسد إرادة الشعوب ويمارس المواطنون حقهم في تقرير مصيرهم عبر اختيار ممثليهم، ومن دونها، تفتقر الحياة السياسية إلى الشرعية وتتحول مؤسسات الحكم إلى كيانات بيروقراطية منفصلة عن هموم الناس وطموحاتهم في التكوين والاستقرار.
لكن ما يضفي على الانتخابات معناها الحقيقي ليس مجرد تنظيمها، بل الكيفية التي تجرى بها، والمبادئ التي تحكمها، والضمانات التي تحيط بها. فالانتخابات ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الحكم الرشيد والمشاركة السياسية الحقة والتداول السلمي للسلطة.
من هنا نسأل: ما أهمية المجالس النيابية "البرلمان" في بناء الدول وتطور المجتمع؟
في المجتمعات المدنية الحديثة، تمثل البرلمانات المنتخبة منابر تشريعية ورقابية أساسية وفاعلة، تحرص على توازن السلطات وتدافع عن الحقوق والحريات العامة. وتتيح الانتخابات للمواطنين فرصة دورية لتقييم أداء الحكومات، وتجديد النخبة السياسية، وتصحيح المسارات الاقتصادية والاجتماعية. إنها عملية سياسية واجتماعية بامتياز، تدفع باتجاه الاستقرار والتنمية عندما تكون نزيهة وشفافة، وتمنح الثقة للمواطن في مؤسسات الدولة، وتؤسس لعقد اجتماعي متجدد بين الحاكم والمحكوم.
لكن، للانتخابات مبادئ ومعايير يجب أن تقوم عليها، لضمان أن تكون الانتخابات أداة للتقدم لا أداة للهيمنة، وأن تقوم على أسس واضحة، في مقدمتها: النزاهة والشفافية: بحيث تدار العملية الانتخابية من قبل هيئة مستقلة ومحايدة، تضمن فيها رقابة فعالة من قبل المجتمع المدني والمراقبين المحليين والدوليين. أيضا، الحرية والتعددية التي من خلالها توفير بيئة سياسية وإعلامية تتيح حرية الترشح والانتخاب، وتعدد الخيارات، والتعبير عن الرأي دون ترهيب أو قمع. مع توفر العدالة وتكافؤ الفرص بما يشمل الحملة الانتخابية، ومنها التغطية الإعلامية، وتوزيع الموارد الدعائية، والوصول المتكافئ للناخبين. والمهم، وهو من أساسيات إدارة الانتخابات، "الشمول": عبر ضمان مشاركة جميع فئات المجتمع، لا سيما النساء والشباب والأقليات، وتمكينهم من التعبير الحر والمباشر عن إرادتهم.
ورغم وضوح هذه المبادئ، فإن واقع الحال في عدد من الدول ومن بينها "العراق" تتحول فيها الانتخابات في كل مرة إلى أداة للهيمنة وتزوير إرادة الناخبين، يشي ذلك بانحراف خطير لمبدإ السيادة الشعبية، حيث تحتكر أحزاب السلطة الانتخابات وتوجيه نتائجها بما يخدم مصالحها وإفراغ العملية الانتخابية كأداة سلمية لانتقال السلطة من مضمونها الديمقراطي. في هذه الحالة، تتحول الانتخابات إلى مشهد شكلي يستخدم لتزيين الاستبداد، ويسهم في تعميق الفجوة بين المواطن ومؤسسات الدولة. والأخطر، تكريس ثقافة الحكم الفردي وتعطيل مسار التطور السياسي والاجتماعي. وقد تفضي مثل هذه الممارسات إلى أزمات سياسية مزمنة، وفقدان الثقة في الدولة، وانفجار الاحتجاجات، التي قد تؤدي إلى انهيار النظام السياسي برمته.
العراقيون، بعد تجربة سياسية مركبة لعقدين من الزمن، أصيبوا بالإحباط حد أنهم، فقدوا الثقة بنزاهة الانتخابات وبالطبقة السياسية وأحزابها القائمة على إدارة الدولة والأخطر، أنهم تكيفوا مع عدم التساؤل، أو كيف يمكن مواجهة التزوير والطبقة السياسية واحتكارها للعملية الانتخابية؟. لأنهم باتوا يدركون، بأن الانتخابات المزورة بحد ذاتها أخطر من مقاطعتهم للانتخابات، لأنها تخدع الناس وتفرغ الديمقراطية من مضمونها. كما وأن مواجهتها تتطلب صبرا، شجاعة، وتنظيما واسعا من معارضة سياسية حقيقية يفتقر العراق إليها.
فالشعب الذي يقمع وفق قوانين تمضي "الحاكمية الطائفية" الشيعية السنية الكردية، منذ اعتلاها دفة الحكم، سبيل تؤليها أو تجييرها كما يحلو لها ـ يدرك، بأن صوته يستحق أن يسمع، وأنه ليس مجرد رقم في مسرحية سياسية لم تنتج سوى أزمات تلو الأخرى فيما البلد يتجه نحو الانهيار بالكامل ولم يبق للأجيال القادمة سوى تحمل آثاره...
في كل الأحوال، من واجب المجتمع، التصدي لتزييف الإرادة الشعبية، عبر جملة من الأدوات ومن أهمها: تعزيز الوعي السياسي المدني من خلال العمل على وحدة الحركة الوطنية ومساندة منظمات المجتمع المدني لها، تكثيف حملات التوعية بحقوق الناخبين وممارسة الضغط الشعبي مثل تنظيم المظاهرات وحملات المقاطعة أو التصويت العقابي، والأهم، العمل الإعلامي والحقوقي المهني عبر توثيق الانتهاكات وكشفها للرأي العام المحلي والدولي وتشجيع وسائل الإعلام الحرة على فضح محاولات التزوير واللجوء إلى الرقابة الدولية والضغط القانوني من خلال بدائل سياسية تدريجية: كإنشاء جبهة وطنية واسعة من أحزاب ونقابات واتحادات مستقلة، يمكنها استثمار تلك الأدوات للضغط من أجل الإصلاح وأن تكون قادرة على قيادة التغيير على المدى المتوسط والبعيد...
إن الانتخابات البرلمانية ليست مجرد ممارسة دورية، بل هي امتحان حقيقي للديمقراطية، ومعيار لمدى احترام الدولة لإرادة مواطنيها وعندما تحترم الدولة ومؤسساتها الحصرية هذه الإرادة، تتقدم الأمم وتزدهر، أما عندما تزور، فإنها تفقد جوهرها، ويتحول البرلمان من ممثل للشعب إلى واجهة للسلطة ومن يمثلها من أحزاب لا يهمها إلا تحقيق مصالحها وفرض إرادتها.
من هنا، فإن مسؤولية الحفاظ على نزاهة الانتخابات لا تقع فقط على عاتق الدولة، بل أيضا على كاهل المواطن والمجتمع المدني والنخب الفكرية والسياسية بمن فيهم (الأغلبية الصامتة) التي تتحمل ما حل في العراق بسبب الهروب من تحمل المسؤولية. فالحرية، أبدا، لا تمنح، بل تنتزع، والكرامة السياسية لا تبدأ من صندوق اقتراع. بل لا تزال هناك قنوات يمكن اللجوء إليها لتحقيق نتائج أكثر فعالية، حتى لو كانت محدودة فهي جزء من حراك لأي تغيير لاحق... وقد تفتح أبوابا أخرى عبر بناء كيانات سياسية فاعلة بديلة تنمو ببطء ولكن بثقة داخل المجتمع ورغبته لإعادة الثقة بنفسه...









