علاء المفرجي
شهد فن القصة القصيرة العربي ذيوعاً وانتشاراً في عقود مضت في عموم الوطن العربي، ابتداء من الأربعينيات، فهيمن تقريباً على المشهد الأدبي العربي، ومارسته أجيال من الكتاب واتجاهات وتجارب وتيارات غطت سماء الكتابة العربية وفتحت أمام كتابها وقرائها على السواء بوابات الحداثة والتحديث. لكن مع بداية الألفية الثالثة شهدت تراجعاً ملحوظاً لهذا النوع الأدبي الجميل، مقابل ازدهار السرد الروائي، حتى أمسى من النادر أن تعثر على قصة قصيرة، سواء في المجلات الدوريات أم الصفحات الثقافية.
لا يوجد انحسار حقيقي لكتابة القصة القصيرة، بل شهدت تطورًا في صيغها وحضورها، خاصةً عبر المنصات الإلكترونية، ورغم أن بعض النقاد قد وجدنها أنها في حالة «إحتضار»، يؤكد آخرون أنها لن تموت، لأنها جزء لا يتجزأ من الحياة الأدبية، وتكمن قوة قدرتها في التعبير المكثف عن المشاعر والأفكار، وفي إمكانية تطويرها لتكون أكثر تأثيرًا من خلال التركيز على فكرة واحدة، وبناء شخصيات متطورة، واستخدام السرد والوصف بطريقة مؤثرة.
حتى الآن، لا توجد جائزة لنوبل مُنحت لكاتب بسبب قصصه القصيرة فقط، ولكن هناك عدد من الأدباء كتبوا القصص القصيرة وكان لهذا النوع من الأدب دورا كبيرا في فوزهم بجائزة نوبل للآداب، ومن أبرز هؤلاء: «إرنست همنغواي” وقد فاز بجائزة نوبل عام 1954، ورغم شهرته كروائي كبير، إلا أنه كتب عددًا كبيرًا من القصص القصيرة المؤثرة، والروائي” ويليام فوكنر”، الذي يُعد من المجددين في أساليب السرد، وقد ساهمت قصصه القصيرة أيضًا في نيله للجائزة، إضافة الى «أليس مونرو” التي فازت بجائزة نوبل في الآداب عام 2013. فلماذا انحسر هذا الفن الجميل، والصعب أيضاً؟ هل لأن الرواية تعطي مجالًا أوسع لتطور وبناء الشخصيات والخطوط الزمنية والدرامية، وهو ما يفتقده القارئ أحيانًا في القصة القصيرة؟
القصة القصيرة هي المختبر لمعظم وسائل التجديد والإجادة والابتكار في الرواية والتي بمرور الوقت أخذت تتخلى عن كثير من سماتها مستعيرة من القصة القصيرة سمات لم تكن تتصف بها وأولها كثافة السرد وكثافة لغته والتخلي عن الطول المفرط لمتونها والاقتراب من القصر كلما وجد الروائي ذلك ممكنا. لذا ظهر وإنتشر ما أطلق عليه (نوفيلا)، والأمثلة الساطعة عليه مثل: “صمت البحر” لفيركور و”المسخ” لكافكا و”ليس للكولونيل من يكاتبه” او “حكاية بحار غريق” أو “موت معلن” لماركيز وعربياً نذكر: “خاتم الرمل وبصقة في وجه الحياة” للتكرلي ولكنفاني “ماتبقى لكم” و”عائد من حيفا”.
هنا آراء عدد من كتاب القصة والنقاد العراقيين في هذا الأمر:
عبد الله صخي: مازالت ذاكرتي تحتفظ ببعض أسماء أبطال الروايات
منذ بداياتي كنت مولعا بالرواية فقرأت منها أكثر مما قرأت من قصص قصيرة. كنت أتماهى مع التفاصيل الحياتية وأتابع الشخصيات في تطورها وتغيرها، ومازالت ذاكرتي تحتفظ ببعض أسماء أبطال الروايات. باختصار كنت مغرما بالرواية. لكن في تلك الفترة من حياتي الأدبية، أقصد أواسط السبعينيات، كان للقصة القصيرة حضور طاغ في العراق والعالم العربي رغم اهتمامنا الكثيف بالنتاج الروائي العربي والأجنبي متابعة ونقدا وترجمة. في لحظة ما شعرت أن المساحة التي أتحرك فيها في جنبات القصة القصيرة ضيقة فيما تمور أحداث ضخمة في روحي تدفعني إلى محاولة إعادة بناء بلدة اندثرت ولم يعد لها وجود. ففي ذلك الصباح من صيف عام 1964 رأيت عشرات البلدوزرات تتقدم نحو “خلف السدة” من عدة جهات لتسحق بيوت السعف والقصب والبواري المتهالكة أصلا وتحولها إلى أرض منبسطة لم يتبق شاهد على ماضيها سوى ضريح السيد حمد الله الموجود حتى الآن حتى خلف مستشفى الجملة العصبية. تلك اللحظة كان السكان يغادرون إلى المدينة الجديدة “الثورة/ الصدر حاليا” في سيارات حمل انتظمت في خط طويل. لم أنس ذلك اليوم حتى بعد مرور عقود من الزمن على وقوعه. هكذا لجأت إلى الرواية لأعيد بناء مدينة مندثرة.
لؤي حمزة عباس: أجيال واتجاهات وتجارب وتيارات غطت سماء الكتابة العربية
في البداية أطرح سؤالا: هل انحسرت حقا القصة القصيرة بعد صدارة؟ وجفّت أنهارها بعد فيض؟ السؤال نفسه يبدو متناقضاً، مستجيباً لمكر النقاد ومزاج الجوائز التي تعمل على هدم الذائقة العامة وإعادة تشكيلها، والتحكم بتوجيه الناشرين... لن أوجه إجابتي للنوع القصصي وخصائصه النظرية، بقدر ما أفكر بالأسباب التي جعلت القصة القصيرة نوعاً أدبياً مهيمناً على مشهد الأدب العربي... أجيال واتجاهات وتجارب وتيارات غطت سماء الكتابة العربية، وفتحت أمام كتابها وقرائها على السواء بوابات الحداثة والتحديث، فما الذي عدا مما بدا، ما الذي تغير في كتابة القصة القصيرة، وفي أساليب تلقيها ليكون التراجع نصيبها والإهمال حصتها؟ لو كُتبت اليوم قصص بوزن (بيت من لحم) ليوسف إدريس، أو (السلحفاة تطير) ليحيى حقي، أو (القنديل المنطفئ) لفؤاد التكرلي، أو (النمور في اليوم العاشر) لزكريا تامر، وهي تكتب بلا شك، فهل تجد من يُعنى بها، ومن يشير إلى موهبة كتّابها؟
خُدعنا بمقولتي (الرواية فن العصر) و(زمن الرواية)، اللتين شغلتا النقاد، فأسهموا بتوجيه الذائقة وحرف المزاج العام بعيدا عن القصة القصيرة.
إن الخلل، ليس في النوع القصصي نفسه، بل في أنظمة التوجيه والدعم والتلقي التي تعمل معظمها داخل الحيّز السوسيوثقافي «فثمة مؤشر آخر على صواب ما أذهب إليه، اهتمام دور النشر العربية بإصدار مؤلفات القصة القصيرة ومختاراتها المترجمة على نحو واضح، مما يؤكد اهتمام القارئ وولعه باكتشاف عوالم قصصية جديدة، من هنا أقول: (في الإجابة عن سؤال تراجع القصة القصيرة، علينا أن نبحث خارج القصة.
محمد حياوي: الذي حصل هو انحسار الأضواء عن هذا الفن الجميل
أرى أن فنّ القصة القصيرة لم ينحسر بطريقة أو بأخرى، لكن الذي حصل هو انحسار الأضواء عن هذا الفن الجميل، أن هذا الفن يعدّ من الفنون الصعبة التي يتطلب مراساً ودربة وقدرة على التكثيف من الكاتب في عدد محدود من الكلمات، على العكس من الرواية التي تتيح مساحتها المفتوحة (بدءاً من ثلاثين ألف كلمة فما فوق) كثيراً من الممكنات لتلافي ضعف الحكاية المروية وتجاوز الهنّات في مسار السرد».
وهناك أسباباً أخرى تتعلق بالجوائز الكبرى في الرواية، خصوصاً في عالمنا العربي، فقد تسببت الجوائز الباذخة والمجانية وغير المنضبطة التي خُصصت للرواية، لا سيما جائزة (كتارا) التي فتحت الباب حتى للروايات المخطوطة، وهذا أمر لم يحدث في أي مكان في العالم، في إقبال منفلت على كتابة الرواية من شرائح مختلفة أغلبها لا علاقة له بالأدب، طمعاً في المبالغ الكبيرة
رغد السهيل: طبيعة الفكرة أو الموضوع تفرض نفسها
مثل الكثير من الروائيين العراقيين بدأت بالقصة القصيرة، لتنتهي الى كتابة الرواية، لماذا؟ هل وجدت ان القصة القصيرة أنها لا تلبي حاجتك الأدبية، رغم انها الفن الأصعب؟ ام أنك وجدت في الرواية فضاء أوسع للتعبير عن عالمك؟
طبيعة الفكرة أو الموضوع تفرض نفسها ونوعية السرد، والقاعدة هي المضمون يحدد الشكل، هناك قضايا تصلح لقصة وأخرى تحتاج فضاء أوسع مثل الرواية، شخصيا أحب كتابة القصة واستمتع بالتجريب فيها وبأنماط السرد وتقناياته، وسبق أن وصلت مجموعة كللوش القصصية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2017 الى القائمة الطويلة في جائزة المتلقى للقصة بالكويت.
ببداياتي لم أفكر بكتابة الرواية لكن الموضوع حين يسيطر علي لابد من اخراجه على الورق، كتابة الرواية أمر صعب يتطلب الكثير من الصبر ويتسبب بالكثير من التوتر خصوصا حين يعلق معي الأبطال فأجد صعوبة بالتخلص منهم، وبعد انتهاء العمل يلامسني حزن خفي لأني سأفارقهم بعد رفقة طويلة، ولكي اتخلص من هذه الحالة ألجأ عادة لكتابة القصة نعم هي الأصعب لأنها تتطلب التكثيف والاهتمام البالغ بالتقنية لكنها تظل واحتي التي أرتاح اليها.
ميسلون هادي: تجربة وجدانية أثرت في حياتي وحياة أهلي كثيراً
لم استعجل كتابة الرواية إلى أن حان موضوعها. وكان ذلك في الأربعين من عمري، عندما ألحت علي فكرة الحرب من منظور مختلف أملته تجربة شخصية بحتة. فكانت العالم ناقصا واحد (وهي قصة طويلة أكثر من كونها رواية) مزجاً بين تجربة خبرية لا تخصني، وتجربة وجدانية أثرت في حياتي وحياة أهلي كثيراً. وجدتُ الرواية تكتب نفسها بنفسها، وتكتمل بالنهاية المفتوحة التي أراداها اللاوعي نوعاً من الأمل الممكن المستحيل










