د. تمارا الجلبي
في زمن يسوده العنف والفوضى والأزمات الهيكلية، يلح علينا سؤال النجاة! ..يعود عادل عابدين الى الرسم من خلال هذه المجموعة الحديثة، ليتقصّى كيف تنقش الصدمة نفسها على المشهد الطبيعي، وعلى الذاكرة والوعي الجماعي. يرافق خط الأفق فضاء هذه اللوحات المتميزة في حضور ثابتٍ ومتحول في آنٍ واحد – يبدو أحياناً وكأنه فاصلاً صارخاً ، وأخرى كحدودٍ ضبابية – يقودنا عبر مساحات تتأرجح بين الخسارات والثبات.
تمثل اللوحة الثلاثية “الجراف” (2025) حجر الزاوية في المعرض؛ إذ تتوزع بقايا سفينةً مدمرةً على ثلاث لوحاتٍ ما يبدأ في اللوحة المركزية يمتد يساراً ويميناً ليصبح حطام السفينة تأملاً في الخراب ، وما يخلّفه من بقايا. وفيما يسير اللاجئون نحو الأفق الممتد ، يصبح الحطام المتناثر والخسارات المرسومة عناصر بنيوية في نسق هذه السلسلة ، لترسّخ مقومات شكلية وموضوعية يتردّد صداها في أرجاء المعرض.
في لوحة “نازحون” (2025)، يهبط شكلان أثيريّان بلونٍ أزرق – يوحيان بمحركات غريبة – الى مشهد متداخل من خطوط متكسّرة وبقايا عضوية. في وسط اللوحة، يرفع النازحون أبصارهم نحو خيمة تتحوّل الى سحابة مضيئة ، كأنها وعدٌ بالنجاة من أرضٍ متداعية ومهدَّمة تحتهم. يدمج هذا المشهد بين الطرد وسلب الإنسان من أرضه وبيته، وبين ما هو متعالٍ وسامٍ يتجاوز حدود الخراب.
تقدم لوحة “تحوّل” (2025) تأملاً في النزوح والبقاء، حيث تتحوّل آثار الطبيعة والإنسان الى أشكال تنطق بالذاكرة والفقدان والصمود. يظهر العمل كمنظرٍ متحوّل تتداخل فيه الأشكال العضوية والتجريدية. تنتشر الخطوط والشظايا عبر السطح، لتذيب الآفاق الواضحة وتخلق إحساساً بالحركة بين التفكك والتجدد.
تستكشف اللوحة الثنائية “أكواريوم” (2025) فكرة الكارثة المحتواة من خلال بيئته المائية المميزة، حيث تنجرف شظايا بقايا صناعية وأشكال عضوية في فضاء مائي يوحي بالغمر والعزلة معاً. يتأمل العمل في كيفية تحوّل المأساة الى مشهد استعراضي، وكيف يُعيد الاحتواء تشكيل إدراكنا وعلاقتنا بالأحداث الكارثية.
بشكل متوازٍ، يقدم "فوق الهاوية" (2025)، رؤيةٌ متفائلة مترددة الأمل، طيف سفينةٌ يتوهج في أعلى اليمين، فيما تحوم شخصياتٌ عند حافة فراغٍ شاسع. معلّقون بين الهروب والهلاك، كأنهم في فضاء ليس أرضاً ولا سماءً – مشهد تحوّل بعمق لدرجةٍ تجعله أقرب الى مركبة فضائية منه الى منظر طبيعي.
رغم ان هذه المناظر الطبيعية والبحرية تحمل طابعاً كونياً مقصوداً – فيمكن ان تكون أي مكان خلّف فيه النزوح والفقد أثره – إلا أنها مشبعة بعمق بسنوات التكوين الأولى لعابدين في العراق. فنوعية الضوء، والعلاقة بين الماء والأرض، والنسيج الخاص للدمار – كلها تحمل أصداء التضاريس العراقية، وان كانت متحوّلة عبر الذاكرة والرؤية الفنية الى فضاءات تنطق بتجارب كونية للدماء والفقد.
كل لوحة تقدّم تأمّلاً خاصاً بها في النزوح ، توحّدها جميعاً وظيفة الأفق كعلامة جغرافية، ونافذة نفسية في آن ففي إحدى اللوحات يظهر الأفق كجرح يمتد عبر مشهد متشظٍ بينما يحوّله عمل آخر الى فضاء برزخي يتداخل فيه الحطام الميكانيكي مع الاشكال البشرية المحلّقة بين الوجود والاندثار. هذه المقاربات المتعددة للأفق تخلق حواراً بين الأعمال، يضيء جوانب مختلفة من معاني النفي والبقاء.
يقف العمل النحتي المركّب "ما تبقَّى" (2025)، كتجسيد مادي لأراضي الفقد والصمود المرسومة في لوحات عابدين، وكأنها اطلال محفوظة تروي قصص الدماء والبقاء معاً، يحوّل هذا العمل المرسوم البصري الى أشكال ثلاثية الأبعاد. مثبتة على عوارض خشبية تستدعي الأفق المتكسّر في لوحاته، تبدو مكوّنات التركيب وكأنها عالقة بين عالمين، حيث تتأرجح بقايا الحطام والمناظر المتشظية بين الوجود والاندثار.
تكّمن قوة هذه الأعمال في تأملات مؤثرة حول انهيار الثقافات عبر التاريخ تماماً كما في اطلال بومبيي الاثرية المحفوظة، حيث تجمّدت حضارة كاملة تحت الرماد، تلتقط هذه اللوحات لحظات معلّقة في آفاقها القاسية ومناظرها المتشظية، يتردّد صداها مع قصيدة ت. س. إليوت "الأرض الخراب" ، الرؤية الحداثية لعالم من صور مكسورة وأبراج ساقطة ، حيث تظهر الجبال وتختفي في ضباب بنى فوق أرضٍ قاحلة لوحات عابدين، مثل أبيات البوت، تكشف كيف ان الرؤى الصحراوية والسراب يمكن ان تنطق بالحقيقة عن الصدمة والفوضى.
انطلاقاً من مكانته كفنان يعمل في الشتات عبر بيئات ثقافية متعددة يُحيل عابدين النزوح والتهجير الى فعل تأمل عالمي في النجاة والتجدد. لا سيما في توقيت عودته الى الرسم، في خضم أزماتنا العالمية الحالية – حيث يصبح الوسيط نفسه وسيلةً لحفظ ومعالجة الصدمات الجماعية، تماماً كما الآثار التي لا تزال تروي قصص الدماء والصمود.
في نهاية المطاف يدعونا معرض "ماذا تبقى" الى التفكر بالصمود بعد تلاشى المألوف. في هذه الشهادات المرسومة، تًصبح الذاكرة ليس فقط مستودعاً للخسارات بل مصدراً للإنبعاث. عبر هذه الأعمال ، نشهد كيف للذكرى نفسها ان تُصبح فعل مقاومة، محيلة أطلال الماضي الكارثية إلى أسسٍ لتخيل مستقبل متجدد .
• ترجمة ندى دلال دوغان










