ترجمة: عدوية الهلالي
عن دار روبرت لافونت للنشر، صدرت في فرنسا مؤخرا رواية (مركب بروسبيرا) وهي رواية ديستوبية آسرة تجمع بين الحلم والواقع وتقول للقراء ان العالم قد لا يكون كما تظنونه..
ولعلّ قراء أدب الفانتازيا المخضرمين ذوي ميول الرعب على دراية بثلاثية "الممر" لجاستن كرونين التي مزج فيها الكاتب الامريكي ببراعة بين الأنماط والأنواع السينمائية في قصة مغامرات رائعة، حيث يحاول آخر الناجين من جائحة مأساوية، حوّلت المصابين إلى مخلوقات مصاصة دماء، البقاء على قيد الحياة في عالم ما بعد نهاية العالم. لقد ابتكر الرجل الخمسيني عالمًا مجنونًا، تم تحويله الى فيلم سينمائي ثم تم اقتباسه أيضًا إلى الشاشة الصغيرة في مسلسل "الممر".
وبعد ثمان سنوات من اختتام القصة، يعود جاستن كرونين أخيرًا بعالم جديد بفضل رواية "مَركب بروسبيرا" التي صدرت في نيويورك تايمز عام 2023، وحظيت بإشادة واسعة من كتّاب مشهورين، منهم آندي وير (مؤلف رواية "المريخي") الذي وصفها بأنها "رواية قوية ومؤثرة"، والكاتب البارز ستيفن كينغ الذي وصفها بأنها "كتاب لا يُنسى".واليوم تعيد دار روبرت لافونت الفرنسية إصدارها في فرنسا لتحظى بالنجاح وتصبح من الكتب الأكثر قراءة لهذا العام..
أول ما يُثير الدهشة عند التعمق في رواية "مركب بروسبيرا هو اختلاف أسلوبها تمامًا عن ثلاثية "الممر"، إذ يتخلى جاستن كرونين عن رعب ما بعد نهاية العالم ليغمرنا في عالمٍ أشبه بالجنة بأرخبيله المكون من ثلاث جزر مختلفة، بما في ذلك "بروسبيرا". وحيث تعيش الشخصيات في عالمٍ أشبه باليوتوبيا، حيث لا يقلق أحدٌ بشأن أي شيء، ويستطيع كلٌّ منهم أن يفعل ما يشاء، ويتمتع الجميع بخلودٍ نسبي (في ظل ظروفٍ معينة).وعلى الأقل نظريًا، فجزيرة بروسبيرا ليست مثاليةً كما قد يظنّها القراء..
في الرواية، يعيش بروكتور حياةً عاديةً وهانئةً بسلام في جزيرة بروسبيرا. فهو متزوج من إليز، ويعمل سائقًا للمراكب. ومهمته هي مرافقة المتقاعدين إلى العبارة التي تقلّهم إلى جزيرة المهد، حيث سيتجددون وتُمحى ذكرياتهم. لكن، يأتي اليوم الذي يتوجب عليه فيه مرافقة والده. فلا تسير الأمور كما هو مخطط لها: فعند الرصيف، يهرب والده. ويتمكن بروكتور من اللحاق به، فيسمع والده يهمس: "العالم ليس هو العالم. أنت لست أنت"."
تلتقط الكاميرات العديدة المنتشرة في أنحاء الجزيرة المشهد، وتخشى سلطات بروسبيرا ومجموعة من مقاتلي المقاومة من "أنيكس" (الجزيرة التي يعيش فيها فريق الدعم) أن يكون بروكتور قد فهم معنى كلمات والده. تتصاعد الأحداث، ويجد بروكتور نفسه مضطرًا للفرار لتجنب اقتياده قسرًا إلى دار الحضانة. وهنا يتضح أن الحياة في بروسبيرا ليست مثالية كما يوحي هدوءها الظاهري.وهكذا، وبعد ستين صفحة فقط، تنقلب حياة بطلنا بروكتور رأسًا على عقب، وتنقلب قراءتنا معها. هذه إحدى نقاط قوة رواية "مركب بروسبيرا": فمن الصعب ألا نرغب في كشف جميع ألغاز الحبكة من هذا التحول المفاجئ. ماذا تعني كلمة "أورانوس"؟ وما الذي حاول والده تحذيره منه؟ ولماذا تُصرّ السلطات على منعه من تذكرها؟ وهل لها علاقة بأحلامه التي تلاشت الآن؟ إنه لغز.
بالطبع، هنالك ثمة جانب كلاسيكي في متابعة رحلة شخصية تحاول فهم ما يكمن وراء اليوتوبيا الزائفة التي تحيط بها. ومع ذلك، ينجح جاستن كرونين بانتظام في إحباط بعض الكليشيهات الشائعة في هذا النوع من الأعمال ليُفاجئنا بشكل أفضل.
ليس الهدف هنا كشف الأحداث، ولكن من الواضح أن رواية "مركب بروسبيرا" مستوحاة من بعض روائع الخيال العلمي، مثل ماتركس وبلاد رانرإذ تتناول الرواية الواقع والأحلام والوهم والأسرار المظلمة، بالإضافة إلى التكنولوجيا والمؤامرة والدمار والصراع الطبقي والبقاء... باختصار، إنها قصة رائعة ذات طبقات متعددة، حيث يتقدم بروكتور كما لو كان يمر عبر مراحل.
وبطريقة ما، تتيح له كل خطوة حل بعض الألغاز الرئيسية، مع تعقيد سعيه الوجودي. وكل اكتشاف يخفي عناصر أخرى متزايدة التعقيد، كاشفًا عن اتساع الكون، والأهم من ذلك، أسلوب جاستن كرونين السردي المؤثر.
أمر واحد مؤكد: فمع تتابع الفصول، يُشوّه الواقع تمامًا، ويصعب معرفة ما إذا كانت الحقيقة هي ما يُقدّم للأبطال أم أنها مجرد خدعة أخرى. ومن هنا يأتي النجاح السردي الباهر، إذ إن "مركب بروسبيرا" في النهاية رحلة مذهلة فيها الكثير من التشويق، ورحلة نفسية وتأمل في الإنسانية، والمشاعر، والحرية، إلخ.
ومع أن الكتاب كان سيغري القاريء بالتأكيد لو كان أقصر قليلاً (حوالي 600 صفحة)، إلا أن جاستن كرونين ما زال بارعًا في إبقائنا متشوّقين، مُحييًا حبكته من حيث لا نتوقع. والنتيجة رواية آسرة، غريبة أحيانًا، ومثيرة غالبًا، ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بشخصياتها وعلاقاتها. ولعل هذا الجانب هو ما يجعلها رواية لايمكن لا تُفوّت قرائتها، حيث تُعمّق رواية "مركب بروسبيرا" الرهانات العالمية للقصة من خلال الرحلات الشخصية لأبطالها.