TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الإيزيديون: بين صدمة الإبادة وواقع الانقسامات وفشل الموتمرات

الإيزيديون: بين صدمة الإبادة وواقع الانقسامات وفشل الموتمرات

نشر في: 18 سبتمبر, 2025: 12:01 ص

د.خالدة خليل

يمرّ الإيزيديون اليوم بمرحلة مفصلية تعدّ هي الأشد قسوة وإيلامًا في تاريخهم الحديث، منذ ذلك اليوم الأغبر في صيف 2014 حين اجتاحت سنجار عاصفة الموت على يد تنظيم داعش.
لم تكن الإبادة مجرد جريمة بحق مكوّنٍ مسالمٍ ومتسامح، بل زلزالًا أراد اقتلاع جذور وجودهم ومحو هويتهم، فمزّق أوصالهم وبدّل خرائطهم الاجتماعية والجغرافية والسياسية. غير أنّه ظلّ عاجزًا أمام صلابتهم وحقّهم في البقاء.
منذ الكارثة، تشتّت الإيزيديون بين خيامٍ مهترئة في مخيمات النزوح، وبين شتاتٍ طويل امتدّ في المنافي البعيدة من أوروبا إلى أميركا وأستراليا.
في الداخل، يرزح عشرات الآلاف تحت وطأة الفقر والبطالة وغياب أبسط مقومات الحياة، وفي الخارج تكابد الجاليات صراع الهوية ومرارة الاندماج. وهكذا تعمّقت الهوّة بين الداخل والخارج: فهنا مَن بقي على الأرض يحلم بعودة الروح إلى سنجار، وهناك مَن ابتعد يرفع صوته في المحافل الدولية مطالبًا بالاعتراف بالإبادة الجماعية. وبين هذا وذاك، يظلّ حبل الحنين إلى الأرض رابطًا بين الداخل والشتات، شاهداً على الألم والانتماء والجذور.
يدرك الإيزيديون أن مأساتهم لم يصنعها داعش وحده؛ فموقع سنجار الاستراتيجي على تخوم الحدود حوّلها إلى ساحة صراع تتنازعها أطراف محلية وإقليمية ودولية، فيما ظلّ صوت أصحاب الأرض غائبًا عن مائدة القرار لتتحول قضيتهم الإنسانية إلى ورقة مساومة في أسواق السياسة، وتغيب الحقيقة تحت ركام المصالح.
وعلى الرغم من كثرة المبادرات، لم تتبلور بعد رؤية موحّدة تجمع الإيزيديين. فقد عمّقت الانقسامات الداخلية الشرخ، وغذّت التدخلات الخارجية الخلافات، وغاب المشروع الصادق الذي يضع مصلحة الجماعة فوق المصالح الشخصية. وهكذا، لم تعد المؤتمرات سوى صدى بلا أثر، ولا الندوات تحمل مغزى، ولا الملتقيات قادرة على لملمة الشظايا، بعدما أثقلهم الانقسام وأعياهم التشتت. وبفعل تشظّي الخطاب الإيزيدي، تقدّمت إلى الواجهة أصوات فردية تسعى وراء حضور إعلامي ومجد شخصي، فتبدّدت الفرص وتعطّلت المحاولات التي كان يمكن أن تحوّل الألم إلى قوة، والإبادة إلى مشروع حياة.
لم تعد قضية الإيزيديين اليوم مجرد ملف سياسي عابر، بل غدت جرحًا مفتوحًا في ضمير الإنسانية، يصرخ في كل يوم بأن العدالة ليست رفاهية، بل حياة تمس جوهر كرامة الإنسان. وإذا كان زمن البكاء والعويل قد ولّى، فإن ساعة الانبعاث من تحت الركام قد حانت. وآن الأوان لتحويل رماد الإبادة إلى وقود للنهوض، وتحوير الألم إلى أمل، يستمد قوته من صلابة العزيمة ووفاء الذاكرة. ولن يكتمل هذا المسار إلا بالالتفاف حول مشروع إنساني نزيه، ينصف الضحايا ويحفظ كرامة الأحياء، ويفتح أمام الأجيال طريقًا يليق بذاكرة مثقلة بالألم والتضحيات، ويصون حقهم المقدس في الاختلاف والوجود.
أما المجتمع الدولي، فعليه أن يتجاوز الشعارات والبيانات، ويقدّم دعمًا حقيقيًا يعيد بناء حياة الإيزيديين، ويصون صوتهم من الاستغلال والمساومة.
إنهم بحاجة إلى مناصرة صادقة وشراكة إنسانية عادلة، إلى جانب ضمانات تحفظ هويتهم الدينية وتحميهم من التعرض للأبادة مجددًا في ظل وجود خلايا متربصة لداعش. ويجب مساعدتهم على تحويل جرح الإبادة إلى درسٍ في الصمود، بحيث يغدو الاعتراف بالأخطاء والإيمان بالحقيقة سراجًا يبدّد عتمة الداخل وغربة الشتات، ويهديهم نحو مستقبل يليق بكرامتهم وحقهم المقدّس في حياة حرّة وكريمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram