عبد الجبار جعفر
الاحزاب التي يمكن ان نطلق عليها أحزاب المعارضة، والمتمثلة بالأحزاب المدنية التي تدعو الى تطبيق مبادئ الديمقراطية لم تُنظم وتعد نفسها بشكل فعال خلال عقدين من حكم أحزاب السلطة – الأحزاب التي تصطبغ بالصبغة الإسلامية، والأحزاب الأخرى المتحالفة معها، التي تجاهلت المبادئ الأساسية للديمقراطية. تلك الأحزاب اهتمت بمبدأ واحد الا وهو اجراء الانتخابات في موعدها كونها السلم الوحيد الذي يوصلها للسلطة رغم ان تلك الانتخابات غالبا ما تفتقد الى النزاهة والشفافية. وعندما تعرضت أحزاب السلطة الى نكسة قوية على يد داعش بسبب فشلها في إدارة الدولة والأسباب كثيرة، اكتفت الأحزاب المدنية بالدعوة الى بناء دولة المؤسسات التي تتخذ من الديمقراطية الحقيقية منهجا للحكم. ولم تهتم كثيرا بجانب مهم من جوانب العمل الحزبي الذي يمكنها القيام به، الا وهو التوعية السياسية والثقافية لشرائح المجتمع غير المؤدلجة واهمها شريحة الشباب ومنها الطلاب والخريجين الذين يبحثون عن فرص عمل، والعمال والحرفيين. لقد ظلت هذه الشريحة مهمشة ومحرومة من ابسط الحقوق، على عكس الطبقة التي ظهرت بعد ٢٠٠٣ واستحوذت على مراكز المال والاعمال والمناصب الحكومية المهمة، بالرغم من عدم اهليتها، وبكل المقاييس، لكن بسبب قربها من أحزاب السلطة. هذه الشريحة يمكن ان نطلق عليها طبقة "الحرافيش".
لقد تخلت الأحزاب المدنية عما كان يجب العمل به الا وهو بناء قاعدة شعبية خلال العشرين عاما الماضية، تؤمن بتوجهاتها وتستند عليها في نشر برامجها التي تدعو الى تحقيق العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان، وفرض سلطة القانون، ومحاربة الفساد بكل انواعه، ومحاربة الامية التي استفادت منها أحزاب السلطة في نشر افكارها التي تتنافى ومبادئ الديمقراطية. غير ان الأحزاب المدنية دأبت على المشاركة في الدورات الانتخابية بالرغم من شحة الإمكانيات المادية التي تساعد على إيصال رسائلها الى جمهورها من خلال وسائل الدعاية المختلفة، وفشلها في اجراء الاستعدادات اللازمة لتهيئة جمهورها من خلال حملات التوعية والتثقيف المستمرة. الكل يعلم ان حملات التوعية تتطلب زمنا طويلا وجهودا كبيرة لحث الجمهور على المشاركة في عملية التصويت.
بالحقيقة لو كان لدى الأحزاب المدنية الإصرار والعزيمة لتحقيق أهدافها للوصول الى الجماهير المهمشة التي تعاني من الجهل والتخلف وفرص العمل، وتجلبها الى جانبها وبالتالي الحصول على اصواتها في الانتخابات، لكان بإمكانها الاستفادة من الالاف الطلاب في المراحل الثانوية، وطلاب الجامعات من اجل القيام بالتوعية والتثقيف. فبعد ان يتم اختيار وتسمية قادة لهم، يتم اشراكهم في دورات تدريبية من اجل قيادة مجموعات الشباب من الطلاب للقيام بمهام التوعية والتثقيف وتنمية الحس الوطني. من الطبيعي هذا العمل لا يمكن إنجازه بفترة قصيرة، بل يتطلب عمل متواصلا يستغرق سنوات. كانت اول انتخابات قد جرت في العراق عام ٢٠٠٥ وكان من المفروض البدء بهذا العمل حالما ظهرت نتائج الانتخابات، واتضحت وقتها الصورة للجميع.
قد تبرر الأحزاب المدنية سبب تقاعسها عن القيام بذلك هو عدم توفر التخصيصات المالية مقارنة بأحزاب السلطة التي تتمتع بإمكانيات مالية هائلة تجنيها بطرق ووسائل مختلفة تحوم حولها الشبهات، ومنها المكاتب الاقتصادية التي تتوزع في مناطق مختلفة من البلاد.. ويعتمد تركيزها على طبيعة الحزب ونشاطه الاقتصادي، فبعض الأحزاب قد تركز على قطاعات معينة مثل الزراعة أو التجارة أو الصناعة، مما يؤثر على مواقع مكاتبها. تلك الأحزاب جنت ملايين الدولارات التي حصلت عليها المكاتب الاقتصادية التابعة لها من خلال الاستحواذ على غالبية العقود التجارية او عقود البنى التحتية والإنشاءات عبر شركات تملكها أو شركات تدعمها مقابل الحصول على نسب مالية ضخمة منها.
وكذلك اتباعها لوسائل مختلفة أخرى، ومنها التجهيل، والولاء المطلق للمقدس الموجود أساسا، او ذلك الذي اوجدته الظروف السائدة بسبب حاجة الانسان المقهور، الذي يعاني من الياس والحرمان، الى أي وسيلة تنقذه من الواقع الذي يعيشه كل يوم. هذه هي الوسائل التي تستخدمها أحزاب الإسلام السياسي لإبقاء الشرائح البسيطة والمُعدَمة موالية لها وخاصة اثناء الانتخابات.
والسؤال الذي يطرح نفسه كيف للأحزاب المدنية ان تتمكن من تحييد هذا السلاح؟
لا اعتقد ان هناك وسيلة أخرى أفضل من التوعية المستدامة من خلال برامج التعليم وحملات محو الامية، واحياء الحس الوطني من خلال التركيز على مسالة الولاء المطلق للوطن كأولوية أولى قبل الطائفة او المذهب. وان أسلوب الشحن الطائفي التي تتبعه أحزاب السلطة من خلال إقناع قواعدها الشعبية بان هذه الأحزاب هي وحدها القادرة على حماية المذهب يعتبر ادعاءاً بعيدا عن الحقيقة لان المذهب يحمي نفسه بنفسه منذ مئات السنين.
*كاتب العمود في صحيفة التايمز والخبير القانوني ديفيد فرينش استضاف حوارًا مع ألكسندرا غليشينسكا-غرابياس، أستاذة القانون التي ناضلت ضد حزب القانون والعدالة اليميني الشعبوي في بولندا خلال فترة حكمه. تصف بشكل مؤثر عملية حشد القضاة، الذين غادروا قاعات محاكمهم لقيادة ندوات تثقيفية جماعية في جميع أنحاء البلاد. من الجدير بالذكر أن القضاة لم يُمْلوا على المواطنين البولنديين اختيار من يصوتون له، بل شرحوا ببساطة أهمية الديمقراطية وسيادة القانون في حياة الناس اليومية. وفي عام ٢٠٢٣، فازت الحركة المؤيدة للديمقراطية، ورفض البولنديون الحزب الشعبوي ذو الميول الاستبدادية، وصوّتوا ضمن ائتلاف يمين الوسط.
ان اهمال التوعية الجماهيرية وعدم استغلال الألاف من الخريجين الذين يعانون من البطالة، بسبب السياسات التي تتبعها أحزاب السلطة باستخدامها الرشوة والمحسوبية للتعيين في دوائر الدولة، قد ساهم في إبقاء الشرائح الفقيرة من المجتمع على حالها تعاني من الجهل والتخلف. مما جعلها صيدا سهلا لتلك الاحزاب التي وظفت كل الوسائل ومن ضمنها الشحن الطائفي والتخويف من عودة النظام السابق، من اجل دفع تلك الشرائح الى اللجوء للهويات الفرعية لكي تبقى ملتصقة بها وبالتالي تصبح من اهم قواعدها الانتخابية.
في الولايات المتحدة الامريكية، مرشح الحزب الديمقراطي، زهران ممداني، وهو شاب مسلم عمره ٣٣ سنة، فاز في انتخابات الحزب التمهيدية لرئاسة بلدية نيويورك لسنة ٢٠٢٥ بعد ان اقصى منافسه الرئيسي حاكم الولاية السابق أندرو كومو. وقد حشد ممداني -الذي ولد ونشأ بأوغندا لأبوين هنديين- جيشا من المتطوعين الشباب عبر حملة على وسائل التواصل تجاوز عددهم ٥٠ ألف متطوع طرقوا أكثر من مليونين باب لسكان المدينة يشرحون فيها سياسة مرشحهم الاقتصادية التي تتضمن خفض تكاليف المعيشة المرتفعة من خلال حافلات مجانية ورياض الأطفال ومنع زيادة الإيجارات. مازال زهران ممداني صامدا ومتقدما على منافسيه رغم الهجمة الشعواء التي يتعرض لها من قبل الرئيس ترامب والحزب الجمهوري واللوبي الاسرائيلي بسبب كونه مسلما ويدعم الحق الفلسطيني، وتوعد بإلقاء النتن ياهو في السجن إذا وطأت قدمه ارض مدينة نيويورك. ومن المفارقات، ان الكثيرين من افراد الجالية اليهودية في نيويورك يدعمون ترشيحه كعمدة (رئيسا لبلدية) نيويورك، لأنهم يرون ان ولائهم ينبغي ان يكون لمدينتهم وللبلد الذي يعيشون فيه!
يقول أحد الكتاب المتخصصين بالكتابة عن الاحتجاجات والدارسين لها: لا جدوى من الشوارع أو في حشد أعداد غفيرة من الناس للمشاركة فيها، إلا إذا كان ذلك جزءًا من تعبئة ذكية واستراتيجية ومنظمة على المدى الطويل. في الوقت الحاضر، ينجو السياسيون عادةً من احتجاجات الشوارع الكبيرة التي لا تُعدّ جزءًا من عمل استراتيجي أوسع وأكثر فعالية وطويل الأمد، وذلك بتجاهلها أو قمعها أو تجريمها أو حتى بمجرد تجاهلها وتنظيم احتجاجات مضادة.
ينبغي، أن تتخذ المعارضة أشكالًا متعددة منها المعارضة الصاخبة من خلال الاحتجاجات والتظاهرات السلمية التي أُعدَّ لها اعدادا جيدا، واستغلال المناسبات الوطنية للقيام بذلك. كما يمكن توظيف قضايا الرأي العام من خلال مساندتها والوقوف مع مناصريها إذا كانت تصب في المصلحة الوطنية، كما يمكن تنظيم الفعاليات الجماهيرية في مختلف المحافظات من اجل خلق حالة من الانسجام والتفاعل بين جمهور الحاضرين من اجل توحيد المواقف والرؤى بما يخدم اهداف أحزاب المعارضة.
ان أحزاب السلطة تلجأ في الفترة التي تسبق الانتخابات الى تأجيج نار الطائفية وخلق حالة من الرعب لدى المواطن، المقهور أصلا الذي يعاني من حالة القلق والخوف الملازم له بسبب العنف الطائفي الذي عانى منه الكثيرين في السنوات الماضية، والنظام الدكتاتوري السابق الذي ادخل البلاد في حروب عبثية تحمل فيها الشعب العبء الأكبر من خسائر في الأرواح وحصار جائر.
وبعملها هذا تهدف تلك الأحزاب لتحويل مخاوف الناخبين الاقتصادية والاجتماعية باستخدام الزيف والتضليل وابقائها ملتصقة بها.
إذن، كيف تُسخّر حالة الغضب في المجتمع من جراء البطالة والامية وحالات الفساد المستشرية في جميع مفاصل الدولة، وغياب الخدمات وخصوصا الكهرباء التي ارهقت كاهل المواطن رغم صرف مليارات الدولارات لكن دون جدوى، وفشل التعليم في جميع مراحله، والغنى الفاحش للأولاد المسؤولين والسياسيين وافلاتهم من العقوبات، وفضائح أخرى كثيرة.
هنا لا بد من عقد لقاءات عامة متواصلة مع الناخبين في محافظاتهم لمناقشة المخاطر التي تهدد المجتمع بسبب حالة الانفلات التي تسيطر على كل مفاصل الدولة، وغياب الإرادة الحقيقية في مكافحة الفساد، أضف الى ذلك عدم اتباع سياسة اقتصادية تقلل من اعتماد الدولة على النفط بشكل كامل بدلا من تنويع مصادر الدخل، ومنها تشجيع القطاع الخاص ودعمه من ان اجل ان يأخذ دوره في توفير فرص العمل وتخفيف الضغط على القطاع العام الذي أصبح امل كل الشباب العراقي في الحصول على فرص عمل فيه.
خلاصة القول: إذا ما أراد المدنيون الوصول الى هرم السلطة عليهم التحرك نحو شرائح المجتمع المهمشة، واهمها شريحة الشباب وخصوصا الطلاب، بعد الانتهاء من اعداد منهج عمل توعوي، تثقيفي تتفق عليه جميع الأحزاب المدنية التي ظلت بعيدة عن السلطة. كما يتوجب على تلك الأحزاب ان تقف مع قضايا الرأي العام وان تجهر، بصوتها عاليا، ضد جميع الممارسات السلبية والخاطئة التي تقوم بها أحزاب السلطة، ومنها اسكات الأصوات الوطنية التي تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد، واهمال الخدمات والنهب الممنهج لثروات الشعب التي من المفروض ان يتمتع بها، وعليهم ان يقابلوا الممارسات الشاذة بغضب ومطالبة المسؤولين عنها بالتوقف، وحث السلطة التنفيذية لإقالتهم وإحالتهم الى القضاء لينالوا جزائهم.
وفوق هذا كله تنمية الحس الوطني لدى الشباب واقناعهم بان شفاء الوطن من علله، التي تسببت بها أحزاب السلطة وساهمت بشيوع " قانون شعلية" بين شرائح المجتمع حيث الكل يساهم في الهدم ولا أحد يتحمل المسؤولية، يجب ان تكون مهمة كل عراقي وطني شريف يحب ان يرى العراق وطنا شامخا مزدهرا تهفو النجوم على قبابه، بفضل سواعد أبنائه من الوطنيين.
• المصدر: صحيفة نيويورك تايمز










