TOP

جريدة المدى > عام > السرد الكاريكاتوري

السرد الكاريكاتوري

نشر في: 21 سبتمبر, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي
عَرفتْ المجتمعات الارستقراطية ومنها المجتمع الإغريقي أدب الساتورا Satura وهي شكل أدائي سردي أو شعري، يجمع السخرية بالهجاء وينبني على فكرة إلصاق الرذائل بشخصية المهجو والتهكم منها باستعمال المحاكاة الساخرة. وقد أطلق ميخائيل باختين على هذا الشكل الأدبي اسم (الهجائية المنيبية) ومثاله رواية (الحمار الذهبي) للوكيوس ابوليوس.
ولقد عرف العرب الهجاء كأحد أغراض الشعر المستقلة التي شاعت في العصر الأموي على يد رواة شعر النقائض الذين كانوا يوردون قصصاً طريفة وحكايات غريبة تتعلق بالمهجو وما يلصقه به الشاعر من أوصاف شنيعة تثير السخرية والاستهزاء. وتدريجيا ظهرت - تأثرا بهذا الحال - حكايات موضوعها أناس منحطون تقال بحقهم كل معاني القدح والذم. ولقد تطور أمر الهجاء باتجاه بزوغ نوع سردي هو (السرد الكاريكاتوري) الذي هو بمثابة مقياس مجتمعي، به يتحدد مستوى العشوائية في النظام الاجتماعي كما تتمظهر فيه فوضى الدينامية الحياتية للأفراد. ومن العوامل المساهمة في ظهور هذا النوع السردي:
1ـ أن النثر الفني شهد في العصر العباسي اهتماماً ملحوظاً وصار متداولا من لدن الأدباء والنقاد بعامة.
2ـ ازدياد الفارق الطبقي بشكل كبير بين الحكام والمحكومين، ما أدى إلى تباعد الفجوة المعيشية بين فئات المجتمع العليا المتنعمة وفئاته المضطهدة الدنيا.
2 ـ واقعية الهجو والتقريع والقذع التي جعلت من السرد الكاريكاتوري أداة ترميزية لبلوغ غايات إصلاحية تفضح السلبيات وتعري لؤم الطباع.
ويعد الجاحظ أول من عُرف بكتابة هذا النوع من السرد الذي عادة ما يتولاه سارد موضوعي يستعمل ضمير المخاطب بقصد إهانة مسروده وذم فعاله بنبرة خطابية شامتة ومتشفية وبأسلوب وعظي واحتجاج عقلي. وساعد تناول الجاحظ لهامش المجتمع العباسي في تأليف حكايات هزلية هي عبارة عن أقاصيص وصفية تتضمن حدثا يسرد بدراماتيكية من خلال شخصية واحدة لا يعطيها السارد اسما، تعبيرا عن وضاعة خلقها الذميم وتصرفاتها المشينة غير المقبولة اجتماعيا التي تجعلها موضوعا سرديا طريفا، عليه يُلقي السارد شتى النعوت الساخطة والأوصاف الجسدية والنفسية المنتقصة والذميمة وبطريقة كاريكاتورية تثير الاشفاق ولكنها لا تخلو من الظرافة واللطافة.
وكثيرا ما تكون شخصيات الجاحظ الفاعلة في السرد الكاريكاتوري ذات مكانة في المجتمع البصري أو البغدادي لكنها معروفة بصفة ذميمة واحدة هي البخل. (ولقد سرى إليك عرق، ولقد دخل أعراقك خور، ولقد عمل فيها قادح، ولقد غالها غول. وما هذا المذهب من أخلاق صميم ثقيف، ولا من شيم أعرقت فيها قريش. ولقد عرض لك إقراف، ولقد أفسدتك هجنة.) وترمز هذه الصورة الكاريكاتورية إلى الأغنياء الذين يجعلهم لؤمهم موصوفين بهذه الأوصاف الوضيعة. بمعنى أن تدني أخلاص الخواص هي تعبير عن وضاعة المجتمع نفسه كما أن انتقاص السارد للمهجو هو انتصار للهامش على المركز ودفاع عن الفقراء واحتشاد للفضائل ضد الرذائل.
وليس القصد احتقار الشخصية ـــــ بغض النظر عن مدى حقيقة ما نقله الجاحظ عنها ــــــ وإنما هو انتقاد النظام الاجتماعي، وتوكيد أن عدم عدالة المجتمع في توزيع ثرواته بين أبنائه هو السبب وراء ثراء الأقلية وفقر الأغلبية.
ومال الجاحظ إلى استعمال الأسلوب الخطابي في التقريع السردي، وفيه يوجّه السارد خطابه إلى الخواص من أهل الثراء الموسرين الذين أضروا بجشعهم العوام من أهل الهامش. ويُبنى السرد الكاريكاتوري على طرائق عدة، أهمها استعمال الوصف بطريقة بانورامية تعطي صورة ثلاثية الأبعاد للشخصية المهجوة ويناسب أخلاق النساء لأن (المرأة لا تسمو إلى مراتب السادة ولا تروم منافسة القادة، وليس لها من عقلها مادة، همها قصير، ووكنها ضعيف، وصدرها ضيق، ورأيها منتشر وفي قوى هواها فضل على قوى عقلها) واذا كان الجاحظ هنا ينتقص فئة من النساء وليس كل النساء فلأنه في إطار السرد الكاريكاتوري.
ومن طرائق هذا السرد أيضا استعمال صيغة مقول القول، ولا فرق إن كان بالفعل المبني للمعلوم أو بالفعل المبني للمجهول، وقد يسبب نقل أقوال الشخصية بطريقة واقعية استعمال كلمات عامية، يقتضيها السرد اقتضاء وتعد رسالة "التربيع والتدوير" من السرد الكاريكاتوري وهي مبنية على المحاكاة الساخرة بطريق المدح بما يشبه الذم. وبطلها أحمد عبد الوهاب وساردها يتكلم بضمير الشخص الثاني (فأنت أبقاك الله في يدك قياس لا يكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل وغرب لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تنسب، ومذهبك الذي إليه تذهب: أن تقول: وما عليّ أن يراني الناس عريضا وأكون في حكمهم غليظا..ومن غريب ما أُعطيت ومن بديع ما أُتيت أنا لم نر مقدودا واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقا مستفيض الخاصرة سواك. فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل وأنت المتقارب. فيا شعرا جمع الاعاريض، ويا شخصا جمع الاستدارة والطول) وقد يتحول السارد الى استعمال ضمير الشخص الأول (وأنا أعشق إنصافك كما تعشق المراة الحسناء وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين) وقد يستعمل السارد طريقة الاستفهام الاستنكاري لتأكيد ما في الشخصية من لؤم وضعة (يا عم، لم تحملنا على الصدق؟ ولم تجرعنا مرارة الحق؟ ولم تعرضنا لأداء الواجب؟ ولم تستكثر من الشهود عليك؟ ولم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم فيك؟)
وتظل الجمل القصيرة سمة فنية في هذا النوع من السرد كما أن الشخصية المهجوة قد تكون معروفة لكن وضاعتها تجعل من الممكن التعريض بها مباشرة. والمراد من التعريض بها انتقاد المركزية الاجتماعية التي تعيش فيها وتمارس تصرفاتها اللئيمة كشخصية محمد بن الجهم التي تعمد السارد أن يكون حكاء ينقل فقط ما قاله الآخرون حول هذه الشخصية المهجوة، فلقد وصفه أحدهم بأنه (يظلم الضعيف، ويقتل الصريع، ويذف على الجريح، ويطلب الهارب ويهرب من الطالب.. في أنفه خنزوانه وفي رأسه نعرة وكأنما أنفه في اسلوب ومن عظم كبره اشتد بحجبه) ورسم الحصين بن الحسين صورة كاريكاتورية مزرية لعلي بن الجهم، فقال: (هذا الرجل..خرج من طباع الامة ونقض ما عليه تجري العادة. .هذا مع ثقل الروح والقدامة والبرد والوخامة فلو كان حلو الحديث عذرت به ولو كان حسن الاستماع امسكت عنه..ولكن استفرغ اللؤم وتعرقه وبلغ غايته واستوعبه وكيف؟ ولم يسمع بملحه قط ولا فهمها ولا ابتسم من نادرة قط ولا عقلها) ثم ذكره مرة أخرى فقال: (يأخذ عليه عدم إجادة المعاني ولا سهولة المخارج وما طلب الشعر ولا لقط خبرا ورضى بالمنطق بدلا من القران، لئيم وبخيل ومحتال، اذا فكر الكريم في الذكر والعابد في الاجر فكر في الاحتيال للمنع. .لا تنفع فيه الرقى ولا تنفذ فيه الحيل)
وختم الجاحظ رسمه الكاريكاتوري لهذه الشخصية قائلا: (فما له لعنه الله ثم ما له لعنه الله كيف نصب للكرم ونهى عنه وتكفل باللؤم ودعا اليه وكيف اعترض على جميع المتقين وبلغ كيده جميع المؤمنين) وبذلك نفَّس السارد عن حنقه على ما كان للجهم من مكانة مركزية كان بسببها مغروراً ومتعالياً، مُسقطاً عليه أدق الأوصاف من تكشيرة الوجه إلى ظرف التغابي، مرمزاً به إلى الخواص الذين صبَّ السارد جام غضبه عليهم، حتى كأنَّ لا سبيل أمامه في انتقاد أهل المركز سوى سبيل التهكم والهزء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram