لطفية الدليمي
البعض من شبابنا وخريجينا كانوا يعلنون عن رغبتهم في العمل بالسلك الدبلوماسي. ربّما كان هذا البعض مأخوذاً بتجربة أقارب له حدثوه عن بعض ميّزات هذا العمل. أخبروه كيف أنّ الدبلوماسي في عالمنا المعاصر هو أقرب إلى شخصية (سندباد برّي) سيُتاحُ له -تبعاً لمتطلّبات مهنته- رؤيةُ الكثير وتجريب الكثير ممّا لا يراه ولا يجرّبه الأغلبية. فضلاً عن هذا الحلم السندبادي اللذيذ كان الدبلوماسي قادراً على الخروج من شرنقة العيش المحكوم بمواصفات صارمة يفرضها النظام السياسي وبخاصة في بلداننا العربية، والعراق بالطبع في مقدّمتها، ثمّ هناك سلسلة الإمتيازات من جواز السفر الدبلوماسي، وإمكانية اللقاء بالشخصيات السياسية والمؤثرة على الصعيد العالمي، إلى جانب مرتّب يُحتَسَبُ بالدولارات الخضراء، وفرصة ثمينة لتربية الأبناء في مدارس عالمية ذات تعليم راقٍ في العادة. لا ضيرَ بالتأكيد في هذا الحلم. المهمّ أن يسعى إليه المرء متزوّداً بمؤونة من العلم والتدريب إذ الأحلامُ لا تتحقق بمحض رغبة متفلّتة جالت بعقل المرء في ساعة صفاء أو عبث.
لم يكن العراق يوماً بعيداً عن التقاليد الدبلوماسية الرصينة منذ سنوات نشأته الأولى. ربما شابت بعضَ هذه الرصانة أنماطٌ من ممارسات خارجة عن السياق الدبلوماسي؛ لكنّما كانت الرصانة العنوان السائد. لم يكن بمستطاع المرء أن يكون سفيراً أو دبلوماسياً من غير المرور ببوّابة (معهد الخدمة الخارجية)على شاكلة (المعهد القضائي) الذي كان يجيزُ المرء للعمل القضائي. كانت متطلّبات (معهد الخدمة الخارجية) صارمة وبخاصة لجهة تعلّم اللغات الأجنبية. المرء المطبوع على أخلاقيات العمل الرفيعة لن يكتفي بالطبع بأن يجتاز متطلبات النجاح في المعهد؛ بل كان يستزيد من العلم والمعرفة، وليسوا أقليةً دبلوماسيونا وسفراؤنا ممّن نعرف مهنيتهم العالية وثقافتهم الرفيعة.
أذكر في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أنّ كتاباً بعنوان (هل للإنسان مستقبل؟) وقع بيدي. الكتاب من تأليف الفيلسوف البريطاني الراحل برتراند راسل، وقد ترجمه (علي حيدر سليمان). كان ثمّة على الغلاف ملاحظةٌ تقول أنّ المترجم حصل على المرتبة الأولى في إمتحان البكالوريا للفرع الأدبي في عموم العراق في سنة بعيدة. قرأت الكتاب بمتعة بالغة بفضل ترجمته الرشيقة. ثمّ بعدما أكملت القراءة وجدتُ في الصفحة قبل الأخيرة من الكتاب تعريفاً وافياً بالمترجم. كان دبلوماسياً كردياً لامعاً، ولو قرأنا سيرته في الشبكة العالمية (الأنترنت) فسنعجَبُ بقدرته الفذّة على ممارسة أنشطة متنوّعة ذات ألوان سياسية أو ثقافية متمايزة.
أكتب هذا الكلام ردّاً على من يسوّغ الأداء السيئ في محفل الأمم المتّحدة لسفيرنا فيها، لقمان الفيلي، الذي بدا أنه لا يتقنُ العربية ومتلكّئاً بصورة معيبة فيها. ثمّة مثقفون كردٌ كانوا رائعين في أفانين العربية، والغريب أنّ كثرة من الكُرد يجيدون العربية بكيفية تدعو إلى الإبهار؛ في وقت لا أظنّ فيه أنّ نسبة مقبولة من العرب تجيد الكردية بأيّة لهجة كانت. لو شئنا إيراد أمثلة فهي كثيرة، ولو أردنا الإقتصار على الحقل الدبلوماسي فسيكون الدكتور الألمعي الراحل (عصمت كتاني) هو المثال البارز.
*****
للأسف هان العراق كثيراً على مسؤوليه في أيامنا هذه. بمَ يحدّثون أنفسهم وهم يرون هذا الفشل الدبلوماسي على منصّة الأمم المتّحدة؟ يبدو سفيرنا وكأنّه كان يقرأ الكلام لأوّل مرّة وليس له علمٌ بما يقرأ. أهكذا يكون السفير؟ لن نطلب من هذا السفير -أو أيّ سفير غيره- أن يقرأ كتاب (الدبلوماسية) لهنري كيسنغر وإن كان هذا الكتاب من مستلزمات تشكيل أدبيات الدبلوماسية. لو قرأ كل سفير أو دبلوماسي هذا الكتاب لعرف أنّه مصنّفٌ فلسفي في تاريخ الأفكار قبل أن يكون تسطيراً لمدوّنة سلوك من الأعراف الراقية.
المعروف أنّ معظم الدبلوماسيين في العالم يحوزون قدرات أدبية وكتابية معتبرة، وكثيرون كتبوا كتباً مرموقة في ميادين شتى. رئيس أركان الجيش الأمريكي في خمسينات القرن العشرين، ماكسويل تايلور، عمل أوّل سفير لبلاده في فيتنام. المنظّر الإقتصادي والمفكّر السياسي الأمريكي جون كينيث غالبريث عمل سفيراً لبلاده في الهند. الاثنان كتبا كتباً رائعة في حقليهما. الأمثلة كثيرة. السفارة عمل خطير وشديد الأهمية وليست وجاهة أو محطّة نفيٍ لمن لا نريد من الخصوم، وفي الوقت ذاته هي ليست جائزة للمُريدين والأحبّة من المتحزّبين والأقرباء.
من العراقيين تحضر أسماء دبلوماسية لامعة: نجدت فتحي صفوت الذي لم يفوّت فترة عمله دبلوماسياً في السفارة العراقية في لندن فراح ينقّبُ في الوثائق البريطانية الخاصة بالعراق وأخرجها في كتاب رائع لم يكن وحيداً بل أضاف له صفوت كتباً عديدة ممتازة صارت كلاسيكيات مرجعية.
ليس العمل الدبلوماسي بمقتصرٍ على السنوات الوظيفية الفعّالة. الذاكرة الدبلوماسية تختزن الكثير من الصور والمشاهدات التي ربّما لا يجد العقل فرصة للتأمّل فيها وهو منغمر في المكابدات الوظيفية؛ لكنّ فرصة التقاعد عن العمل الدبلوماسي تهيئ فرصة ممتازة لكتابة المذكّرات النافعة والتي قد تنطوي على خبرة مهمّة على الصعيدين المهني والعام.
منذ زمن ليس بقليل وأنا أتابع على موقع جريدة (الشروق) المصرية ما يكتبه السفير المصري المتقاعد (جميل مطر) من مذكّرات تخصّ عمله الدبلوماسي في أماكن عدّة. موضوعاته كثيرة وذات طيف واسع، يحكي في بعضها عن جدّته، وفي أخرى عن سيّد مكّاوي وكيف عمل مع إبنته التي خدمت لسنوات طويلة سفيرة في الفاتيكان، ثمّ يربط في مقالة أخرى بين سنوات دراسته العليا في كندا وتحليله للشخصية الكندية ورفضها الإنصياع للغطرسة الأمريكية. هناك خبرة مكنوزة في هذه المقالات تخبرك أنّ كاتبها لم يكتف ببهرجة الهيلمان الدبلوماسي وامتيازاته بقدر ما كان راغباً في التعلّم وترصين سمعة بلده في المحافل الدولية.
أفكّر في هؤلاء الذين تسنّموا مواقع دبلوماسية للعراق في الفترة الأخيرة لينضمّوا للجوق الدبلوماسي السابق الذي لا يختلف كثيراً عنهم. مجموعة متحزّبين وأقرباء لمسؤولين!! في الدولة العراقية. ما مواهبهم؟ ما اللغات التي يتقنونها؟ هل يتحدّثون العربية بكفاءة معقولة وليس بتلك الطريقة المعيبة لسفيرنا في الأمم المتّحدة؟ هل سيعملون لخدمة العراق أم سيحسبون العمل الدبلوماسي محطّة استراحة وتجارة؟
رأيت أحدهم وهو يرتدي بدلة سموكنغ. أظنّه كان يتأهّب لإلتقاط صورة شخصية له وهو في بدايات مهمته الدبلوماسية. ربما أشار له مستشار أنّ البدلة السموكنغ هي كلّ الأكسسوار اللازم للمهمة الدبلوماسية.
ربما سيرتدي هؤلاء، سفراءُ الغفلة الدبلوماسية، البدلة السموكنغ؛ لكن هل سيستطيعون كتابة شيء من مذكرات نافعة بعد عشرين أو ثلاثين سنة؟ هل يجيدون شيئاً من الكتابة النافعة؟ وقبل هذا: هل ستختزن ذكراتهم ما يصلح للكتابة عنه؟
العراق يعيش رثاثة دبلوماسية مؤكّدة. ما العجب في هذا؟ لماذا نتصوّرُ أنّ الرثاثة التي تضرب العراق في كلّ مفاصله ستستثني الدبلوماسية من مخالبها القاتلة؟ تخيّلوا معي مشهداً يتطلّعُ فيه طيّبا الذكر (علي حيدر سليمان) و (عصمت كتاني) في صورة (لقمان الفيلي) وهو يتعثّر بصورة معيبة في كلمته. لا أدري هل كانا سيذرفان الدموع الساخنة أم سيلعنان القدر البائس الذي أطاح بالعراق وجعله مُضْغة في الأفواه.
أظنّهما كانا سيسبّحان بحمد ربهما كثيراً إذ غيّبهما عن مشهد الرثاثة العراقية منذ سنوات بعيدة، حيث لا قلبٌ يحزن، ولا عينٌ تدمع، ولا عقلٌ يضطرُّ لمشاهدة المحسوبين -اضطراراً- وارثي تقاليد الدبلوماسية العراقية الرفيعة وهم يطيحون بكلّ مواريثها الجميلة.











جميع التعليقات 1
علاء مهدي
منذ 2 شهور
مقال رائع وهادف ، استغرب عدم وجود تعليقات عليه.