بغداد/ تبارك عبد المجيد
يشهد العراق ارتفاعًا في معدلات انتحار الشباب، حيث سجلت البلاد 700 حالة انتحار في عام 2023، مقارنة بـ 352 حالة في عام 2022. وتُظهر الدراسات أن الفئة العمرية الأكثر تأثرًا هي بين 15 و29 عامًا، حيث تمثل هذه الفئة أكثر من نصف حالات الانتحار. وتظهر البيانات أن 36.6% من حالات الانتحار كانت بين الشباب دون سن العشرين.
سجلت بغداد 64 حالة في الربع الأول من العام الحالي، فيما سجلت نينوى 7 حالات حتى نهاية حزيران، وبلغ عدد الحالات في ديالى 30 حالة حتى منتصف آب، بينما سجلت كركوك حالة واحدة. في محافظة واسط أقدم شاب على الانتحار شنقًا قبيل امتحانات الثانوية العامة. أما في محافظة ذي قار، فتم تسجيل ما بين 40 إلى 45 حالة انتحار في النصف الأول من عام 2025، معظمها بين الشباب، وتنوعت وسائل الانتحار بين الشنق والغرق وإطلاق النار.
تُعزى هذه الظاهرة إلى مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك التفكك الأسري، انتشار المخدرات، قلة فرص العمل، وغياب أماكن الترفيه. وتشير الإحصائيات إلى أن 11.3% من طالبات المدارس الثانوية في بغداد تراوحت أعمارهن بين 13 و17 عامًا أظهرن أفكارًا انتحارية، مما يسلط الضوء على الحاجة الماسة لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي.
الجانب النفسي والاجتماعي
قالت الباحثة الاجتماعية استبرق الزاملي: “ظاهرة انتحار الشباب في العراق ليست مجرد أرقام على ورق، بل هي انعكاس لأزمة اجتماعية ونفسية مركبة يعيشها الشباب يوميًا. من خلال دراساتنا وملاحظاتنا الميدانية، نجد أن العديد من حالات الانتحار ترتبط بالتجارب الصادمة المبكرة مثل فقدان أحد الوالدين، النزوح، العنف الأسري، أو التعرض للاعتداء الجسدي والنفسي. هذه التجارب تترك آثارًا عميقة على الصحة النفسية للشاب، وتزيد من شعوره باليأس والعجز".
وأضافت في حديث لـ”المدى”، إننا “نلاحظ غياب شبكة دعم اجتماعي متماسكة يجعل الشباب أكثر عرضة للانهيار النفسي. في كثير من الأحيان، لا يجد الشاب من يتحدث إليه عن ضغوطه ومخاوفه، ما يزيد من شعوره بالعزلة والرفض الاجتماعي. كما أن المشكلات النفسية المزمنة، مثل القلق والاكتئاب غير المشخصة، تتفاقم بسبب نقص المستشارين النفسيين والمراكز الاجتماعية المتخصصة".
وتابعت الزاملي: “هناك أيضًا جانب ثقافي ومجتمعي يساهم في تفاقم الظاهرة، حيث يميل المجتمع العراقي إلى إخفاء المشاكل النفسية والحديث عنها باعتبارها عيبًا أو ضعفًا. هذه الثقافة تمنع الشاب من طلب المساعدة في الوقت المناسب، وغالبًا ما يظل يعاني بصمت حتى تصل الأزمة إلى مرحلة حرجة".
وأشارت إلى أن “في مناطق النزاع والمناطق التي تعاني من انعدام الاستقرار الأمني، ترتفع معدلات الانتحار بشكل ملحوظ، ما يدل على أن الظروف البيئية والاجتماعية المحيطة بالشاب تلعب دورًا رئيسيًا. الشباب في هذه المناطق يعيشون ضغطًا نفسيًا متواصلًا بسبب فقدان الأمان، الفقر المزمن، ونقص الخدمات الأساسية، وهو ما يدفع البعض للتفكير في الهروب من الواقع بأي وسيلة".
وتابعت بالقول، إن لمعالجة هذه الظاهرة، نحن بحاجة إلى “إعادة بناء شبكة الدعم الاجتماعي والنفسي، من خلال إنشاء مراكز استشارية في الأحياء والمدارس، تدريب كوادر اجتماعية ونفسية متخصصة، وتغيير الثقافة المجتمعية التي تقلل من أهمية الصحة النفسية. حماية الشباب هي حماية لمستقبل المجتمع ككل، ولا يمكن الاستهانة بتأثير هذه الأزمة على الأجيال القادمة".
قال د. علاء كامل، طبيب نفسي بورد في الصحة النفسية، إن “الشارع العراقي سجل في السنوات الأخيرة ارتفاعًا مقلقًا في معدلات الانتحار بين الشباب، وهذه الظاهرة ترتبط بعدة عوامل رئيسية، منها تأثير منصات التواصل الاجتماعي التي تروج لصورة مثالية عن حياة المشاهير، الأمر الذي يدفع الكثير من الشباب إلى المقارنة والشعور بالعجز واليأس".
وأضاف لـ”المدى”، إن “التفكك الأسري وضعف الروابط العاطفية داخل العائلة يسهمان بشكل مباشر في تعزيز مشاعر العزلة والوحدة لدى الشباب، حيث يغيب الدعم النفسي الذي يحتاجه الفرد في مراحل الأزمات”، مشيرًا إلى المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الشباب اليوم وقلة فرص العمل وغياب الدعم من المؤسسات المعنية مثل التعليمية والصحية.
وتابع: “لا يمكن أن نتجاهل كذلك دور المخدرات، فهي تزيد من حدة الاضطرابات النفسية وتدفع الكثيرين إلى سلوكيات مدمرة، كما أن البطالة وانعدام فرص العمل يجعل الشاب يشعر بأن مستقبله مسدود، فيفقد الأمل تدريجيًا".
وأشار كامل إلى أن “الجانب النفسي في العراق ما يزال مهملاً بشكل كبير، فالمراكز المتخصصة محدودة، والكوادر غير كافية، كما أن الوصمة الاجتماعية تمنع الكثير من الشباب من مراجعة الطبيب النفسي، وحتى المؤسسات التعليمية تكاد تخلو من مراكز إرشاد نفسي فاعلة".
وتابع بالقول: “مواجهة هذه الظاهرة تحتاج إلى استراتيجية وطنية شاملة، تبدأ من نشر الوعي وكسر الحواجز الاجتماعية، مرورًا بتطوير خدمات الصحة النفسية وتوسيع نطاقها، وصولًا إلى إدماج الدعم النفسي في المدارس والجامعات. فالشباب هم أساس المجتمع، وحمايتهم مسؤولية الجميع".
الجانب الاقتصادي
وقال الباحث الاقتصادي عبدالله نجم: إن “ظاهرة انتحار الشباب في العراق ليست فقط نتيجة عوامل نفسية واجتماعية، بل ترتبط بشكل مباشر بالواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الشاب العراقي. معدلات البطالة المرتفعة، غياب فرص العمل اللائقة، وارتفاع تكاليف المعيشة تجعل الشباب يعيشون في حالة إحباط دائم وعجز عن تحقيق طموحاتهم الأساسية".
وبين نجم لـ”المدى”، إنه إلى جانب البطالة، يفتقر العراق إلى أماكن ترفيهية وثقافية للشباب، مثل الملاعب، النوادي، والمراكز الثقافية، مما يحرمهم من أنشطة تخرج الطاقة السلبية وتخفف من الضغوط النفسية. هذا الفراغ يزيد من شعور الشباب بالملل واليأس ويجعلهم أكثر عرضة للأفكار الانتحارية، خاصة في ظل غياب الدعم الاقتصادي والاجتماعي".
وتابع: “المجتمع يضع الكثير من التحديات أمام الشباب دون توفير حلول بديلة، ما يجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون في حلقة مغلقة من الفقر والضغط الاجتماعي والاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، غياب السياسات الحكومية التي توفر برامج شبابية مبتكرة ومشاريع صغيرة مدعومة ماليًا يزيد من شعورهم بالعجز وفقدان الأمل".
ولمواجهة هذه الظاهرة، اقترح نجم حلولًا: “نحن بحاجة إلى استثمارات حقيقية في الشباب، تشمل خلق فرص عمل، دعم المشاريع الصغيرة، وإنشاء أماكن ثقافية وترفيهية آمنة تشجع الشباب على تنمية مهاراتهم والاستمتاع بوقت فراغهم بشكل إيجابي. إن تحسين الوضع الاقتصادي وتوفير بيئة صحية للشباب هو أحد أهم الحلول للحد من الانتحار وحماية مستقبل المجتمع العراقي".
تواصل معدلات الانتحار في العراق تسجيل مستويات مقلقة، مع تزايد الحالات بين فئة الشباب بشكل خاص. وتشير بيانات رسمية إلى أن البلاد سجلت أكثر من ألف حالة انتحار في عام 2022، مقارنة بـ 863 حالة في 2021، فيما لم تتجاوز الأعداد 376 حالة عام 2015، ما يعكس تضاعف الظاهرة خلال أقل من عقد.
وتظهر الإحصاءات أن نحو 36.6% من حالات الانتحار تعود لشباب دون العشرين من العمر، في حين تكشف دراسة أجريت على طالبات مدارس ثانوية في بغداد أن 11.3% منهن تتراوح أعمارهن بين 13 و17 عامًا أبدين أفكارًا انتحارية.
أما عن طرق الانتحار الأكثر شيوعًا في العراق، فتتوزع بين الشنق، استخدام الأسلحة النارية، الحرق، والتسمم، وفق دراسة وطنية شاملة.
الباحثون يربطون هذه الظاهرة بجملة من الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية؛ إذ تشير بيانات إلى أن 43% من الحالات تعود إلى اضطرابات نفسية، و35% إلى مشاكل أسرية، فيما تمثل العوامل الاقتصادية نحو 15%.
وتؤكد تقارير متخصصة أن العراق ما يزال يخصص أقل من 2% من ميزانيته الصحية للصحة النفسية، رغم أن الضغوط المتزايدة الناتجة عن الفقر والبطالة وغياب الخدمات تدفع آلاف الشباب إلى دائرة اليأس.
وبحسب خبراء، فإن معالجة الأزمة تتطلب استراتيجية وطنية شاملة تشمل تطوير خدمات الصحة النفسية، وتوسيع برامج الدعم الاجتماعي، إضافة إلى الاستثمار في مشاريع شبابية وفرص عمل تحد من الإحباط وتعيد الثقة بالمستقبل.
معدلات الانتحار بين الشباب في العراق تصل إلى مستويات خطيرة

نشر في: 23 سبتمبر, 2025: 12:09 ص









