محمد علي الحيدري
في سياق سياسي داخلي متشابك، شرعت الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، في اتخاذ إجراءات أثارت جدلاً واسعًا، تمثلت في التهديد بقطع التمويل الفيدرالي عن عدد من الجامعات الأمريكية الكبرى، بحجة التصدي لما تعتبره “معاداة للسامية” أو “انحيازًا أيديولوجيًا يساريًا متطرفًا”. ويتركز هذا التصعيد تحديدًا حول البرامج الأكاديمية والنشاطات الطلابية التي تتناول قضايا الشرق الأوسط، ولا سيما الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، في أعقاب موجة احتجاجات طلابية واسعة رفضت الحرب في غزة وانتقدت الدعم الأمريكي لإسرائيل.
هذه الخطوة تسلط الضوء على توتر متزايد بين حرية التعبير والسياسات الأمنية، وتكشف عن محاولة لربط السياسة الداخلية الأمريكية بالمواقف من قضايا الشرق الأوسط، في مشهد معقّد يعكس التداخل العميق بين الداخل والخارج في صناعة القرار السياسي. فبدلًا من التعامل مع الجامعات باعتبارها فضاءات مستقلة للحوار الفكري، تسعى الإدارة إلى فرض ضوابط على الخطاب الجامعي، تحت ذرائع تتعلق بالأمن الداخلي، مما يُنذر بتآكل حدود الحرية الأكاديمية.
في جوهر الأمر، تطرح هذه السياسة إشكالية مفاهيمية تتمثل في توسيع تعريف “معاداة السامية” ليشمل أي نقد موجه لسياسات الحكومة الإسرائيلية، وهو توسّع يخضع لاعتبارات سياسية أكثر من كونه تعريفًا حقوقيًا أو أخلاقيًا. وبهذا، تتحول التهمة إلى أداة سياسية تستخدم لفرض رقابة ضمنية على النقاش الأكاديمي، وتدفع الجامعات نحو تبني سياسات رقابية ذاتية تفضي إلى تقييد النقاش المفتوح، لا سيما في القضايا الجدلية والحساسة.
استراتيجياً، يعكس هذا النهج محاولة لإعادة رسم حدود حرية التعبير داخل المؤسسات الأكاديمية، بما يتماشى مع أولويات السياسة الخارجية للإدارة، لا سيما دعمها غير المشروط لإسرائيل. وتكمن الخطورة هنا في أن هذه السياسات قد تؤدي إلى تهميش أصوات طلابية معينة، خاصة من أصول عربية أو مسلمة، وتخلق شعورًا بالعزلة والتمييز داخل الحرم الجامعي. كما أنها قد تُضعف قدرة الجامعات على تأدية دورها كمحاضن للتفكير النقدي، وتحويلها إلى أدوات تنفيذية في يد الدولة.
أما على المستوى العربي، فإن هذه التطورات تثير تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقة الأكاديمية مع الولايات المتحدة. فالجامعات الأمريكية تستقطب آلاف الطلاب من الدول العربية، وتُعد شريكًا رئيسيًا في برامج التبادل والبحث العلمي. وعندما تصبح هذه المؤسسات عرضة للتسييس المفرط، لا سيما في قضايا تمس وجدان ووعي الشعوب العربية، فإن ذلك لا يؤثر فقط على صورتها، بل ينعكس أيضًا على موقع الولايات المتحدة كشريك أكاديمي موثوق في المنطقة.
لا شك أن حماية الطلاب من خطاب الكراهية تظل مسؤولية أساسية، لكن تحويل هذه الحماية إلى ذريعة لإسكات الأصوات المعارضة أو لتوجيه الخطاب الأكاديمي نحو رؤية سياسية أحادية، يُعد انتهاكًا صريحًا لمبادئ الحرية والديمقراطية.
إن الجامعات، بما تمثله من استقلال فكري وتعدد في الرؤى، يجب أن تبقى خارج حسابات الصراع السياسي، وألا تُستخدم كأدوات ضغط لإعادة تشكيل الوعي العام وفق أجندات آنية. فبينما تُوصف الديمقراطية الأمريكية بأنها نموذج عالمي، فإن المساس بحرية التعبير داخل مؤسساتها التعليمية قد يُفقد هذا النموذج كثيرًا من صدقيته، داخليًا وخارجيًا.










