خالدة خليل
الإخلاصُ قيمة عليا لا يطيق حملها سوى القليل من البشر ، وامتحانٌ عسير، لا يجتازه إلا من صقل وفاءه في أتون التجارب القاسية ، وعرض قلبه لرياح الشدائد .
واختيارك أن تكون مخلصًا، هو أن توقّع عهداً مع ذاتك بأن تسلك الدرب الأصعب ، درباً لا يهبك غير خبز يابسٍ كصبر المنافي، وعرقٍ يتصبّب من جبينك وأنت تتسلّق جبال الحياة الوعرة، فيما يقف عند السفح كثيرون يتربّصون بك، يترقّبون عثرتك، منتظرين لحظة سقوطك ليزجوا بك إلى الهامش أو في منفى النسيان .
أن تكون مُخلِصًا، يعني أن تختار المسير وحيدًا في الدرب الأصعب ، في طريقٍ طويلٍ موحشٍ، مفروشٍ بالأشواك، محاطٍ بخناجر الغدر، في زمنٍ يعلو فيه ضجيج الباطل على همس الحق، وتُعرض القيم في أسواق النفاق بثمن بخس، وتُرفع الرايات فوق رؤوس المنافقين، وتُقرع الطبول للمقنعين بألف وجه !
يعني أن تمضي بلا أضواءٍ ترشدك ولا هتافٍ يرافقك، غير أنّ في أعماقك شعلة لا تنطفيء، وصفاء تعجز الأهواء عن تلويثه، وقيمةً أرفع من كل صخبٍ يضجّ به العالم من حولك.
أن تكون مخلصًا يعني أن تدفع ضريبة الانتظار، وترى الطريق ممهّدًا أمام عينيك لأصحاب السجلات السوداء الذين يتقنون التلون والتزييف، بينما تُترك أنت في الصف الأخير، تنتظر دورًا قد لا يأتي أبدًا.
يعني أن تحمل زوادة الصبر، وتشرب دموعك، وتراقب عمرك يحترق كشمعةٍ في عتمةٍ بلا شهود، تضيء لنفسها طريقًا لا يراه غيرك!
ولأنك صادق مع قضيتك، تعيش غريبًا بين أهلك؛ يرونك شاحبًا ، يديرون وجوههم عنك، بينما يصفقون بحرارة للمراوغين الذين يحوّلون الباطل بالسحر إلى الحق، ويخفون الخداع خلف ستار الصواب.
أن تكون مخلصًا يعني أنك تدرك حجم ضريبة الوفاء، في عالم يحكمه الانتهازيون؛ عالم تُفتح أبوابه على مصراعيها للمخادعين وتُغلق في وجه من ظلّت صحيفته بيضاء ناصعة. فالصفحات البيضاء لا تجذب الفضول، ولا تخطف الأبصار، في زمن تُقدَّر فيه المظاهر وتُهمل القيم .
ولأنك اخترت الإخلاص، فلا تنتظر أحدًا ليجزيك بكلمة طيبة، حتى لو كانت صدقة. فقد تعصف بك غيرةٌ عاتية، أو تلفح وجهك ريحُ سمومٍ تخنق أنفاسك، لتجد نفسك وسط الزوابع، في مواجهة بركانٍ هادر من الزور والبهتان، تقاتل طواحين المديح الزائف من حولك بسيفٍ خشبي !
الإصرار على الإخلاص هو أن تُخالف التيار الجارف، أن تصمد في وجه جيوش المرائين، وأن تختار الموت واقفًا على أن تحيا منكسِرًا.
أن تصرّ على الإخلاص، هو أن ترفع صوتك عاليًا في وجه الزمن الرديء، وتعاهد نفسك على انك لن تنحني أبدًا، ولن تساوم على وفائك، ولو تخاذل عنك الجميع.لأن الإخلاص جوهرةً تتلألأ في وحل هذا الزمن العليل، لا يخفت بريقها تحت رماد الخيبات، ولا تقوى فؤوس المغشوشين على كسرها.
إنه تاجٌ لا يليق إلّا بالرؤوس التي رفعها الله فوق مقاييس البشر، وشهادة صامتة على صمود القيم النقية، ونغمة صادقة في سيمفونية الزيف التي تملأ عالم التفاهة!










