علي مدن
من أغرب ما جاءت به المدونة الجعفرية إقحامها لفكرة أنّ “الإمام وارث من لا وارث له” ضمن أبواب “الأحوال الشخصية»!!!
فهل القضية عبارة عن “كبوة” بريئة، نعتذر لها بالمثل العربي” (لكل جواد كبوة)؟؟؟
دعونا نوضح أولا وجه الغرابة:
يجب أن نعرف أن هذا الحكم (الإمام وارث من لا وارث له)، كما قرّره الفقه الإمامي نفسه، لا يتحدث عن الإرث بوصفه مالاً شخصياً يُنسب إلى الإمام باعتباره فردًا من أفراد المجتمع، بل هو تعبير “سياسي” عن “الولاية - العامة - في - الأموال”. وبلغة أوضح: هو تعبير عن “منصب - سياسي - سيادي” يتناول سلطة الدولة وصلاحياتها في وضع يدها على المال العام، شبيه بوضع يدها على (النفط، والأراضي، والأنهر ... إلى آخره) من الأموال التي ترجع لخزينة الدولة (أو بالتعبير القديم: بيت المال). ولهذا لا ينتقل هذا المال من الإمام إلى “ورثته” الشخصيين، بل ينتقل إلى الإمام الذي يليه، أي إلى “الإمام” صاحب “الولاية العامة” بعده، الذي يمثل “الدولة الشرعية».
هل يجهل واضع المدونة هذا؟
نحن أمام احتمالين لا ثالث لهما:
- أنه يجهل ذلك فعلا. وهذا يثبت عدم أهليته لكتابة المدونة أساساً!!!
- أنه يعلم أن هذا الحكم ذو طبيعة “سياسية - مالية”، لا علاقة له بباب “المواريث الأسرية”، كما يعلم أن الدول اليوم تعتبر أموال “من لا وارث له” من الأموال العامة للدولة، ثم يعلم - ثالثا - أن الإمام ليس موجودا الآن!!!
بناء على الاحتمال الثاني، يحق لنا السؤال: من هو صاحب “المنصب - السياسي - السيادي” الذي يمثل الدولة هنا؟ وهل يعني ذلك أن الدولة العراقية الحالية “غير شرعية” فنحتاج إلى “منصب - سياسي - سيادي” خارجها؟
في الواقع، أن واضع المدونة حين يضع “بديلا” للدولة العراقية (وقد قلنا في البداية إن مقولة: “الإمام وارث من لا وارث له”، تعبير سياسي عن منصب سيادي باعتراف الفقه الإمامي نفسه) إنما ينطلق من “رؤية سياسية خاصة”، مفادها: أن الشكل الوحيد للدولة الشرعية هي الدولة الدينية، التي يكون في قمتها فقيه شيعي يعدّ “نائب الإمام”، ولكنه يعرف أن البوح علنا بهذا - أو تحقيقه فعلا - غير ممكن في العراق، لذا ينقل رؤيته من “الدستور” إلى “مدونة الأحوال الشخصية”! إنه بذلك لا يسلب الشرعية عن الدولة فقط، وإنما يعيد تعريف العراقي من كونه “مواطنا” إلى كونه “عضوا في طائفة”!، وهو يفعل ذلك بأدوات ناعمة! “مدونة الأحوال الشخصية».
*********
إرث الزوجة
لا تظنّوا أنّ مسألة إرث الزوجة من القضايا الخطيرة التي لا يمكن تغييرها!!! فهناك مسائل أكبر وأعقد جرى التخلي عنها (مثل: حكم “قطع يد السارق” الذي لم يعد يعمل به أحد).
إنّ القول بعدم إرث الزوجة من أرض زوجها (لا عينًا ولا قيمة) يخالف إطلاق القرآن الذي نصّ على: (ولهنّ الربع ممّا تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن ممّا تركتم) (النساء: 12). والتعليل الذي اعتمده أئمّة المذهب الإمامي واضح ومفهوم.
لاحظوا بما علل أئمة المذهب الشيعي هذا الحكم:
1 - إنّما هي دخيل عليهم [أهل الزوج]، ولا يدخل عليهم داخل بسببها.
2 - إنّما صار الحكم كذلك لئلّا تتزوّج المرأة فيجيء زوجها أو ولدها من قوم آخرين فيزاحموا أقوامًا في عقارهم.
3 - كي لا يتزوّجن فيُفسدن على أهل المواريث مواريثهم.
4 - لئلّا يدخل عليهنّ من يفسد مواريثهنّ.
5 - لأن العقار لا يمكن تغييره وقلبه، والمرأة قد يجوز أن ينقطع ما بينها وبينه من العصمة، ويجوز تغييرها وتبديلها … فما يجوز أن يجيء ويذهب كان ميراثه فيما يجوز تبديله وتغييره إذا أشبهه، وكان الثابت المقيم على حاله كمن كان مثله في الثبات والقيام.
من الواضح أن هذه النصوص تتحدث عن مشكلة اجتماعية خاصة، وهي دخول “الغريب” في وسط العشيرة، حيث يُنظر إلى الأرض كشيء “ثابت” في وسط العصبة، بخلاف الزوجة التي هي “متغيّرة”، يمكن تغييرها واستبدالها بزوجة أخرى.
ومن الواضح أيضا، أنّ المسألة ليست تعبدية محضة (كعدد ركعات صلاة الصبح)، بل هي معلَّلة، وعلتها منصوص عليها. ومن البديهي أنّ الحكم يدور مدار علته وجودًا وعدمًا، فإذا انتفت العلّة انتفى الحكم.
فلننظر - إذن - إلى واقعنا الاجتماعي الحديث:
• هل نحن نسكن في “سلف” عشائري؟ أم في مدن وأحياء مختلطة؟ الجواب واضح: لم يعد هناك وجود فعلي للبنية العشائرية القديمة، بل نسكن في مدن خليطة.
• في هذا السياق، لم يعد لثبات الأرض وعدم إمكان نقلها أي قيمة. فالملكية اليوم فردية ومستقلة، مسجَّلة في أنظمة عقارية رسمية، تمنع دخول أي غريب عليها.
بذلك، تكون العلّة القديمة قد زالت تمامًا، ولم يبقَ إلا الأصل القرآني المطلق في التوارث بجميع التركة.
وهذه النتيجة سيصل إليها الجميع عاجلًا أو آجلًا، والمسألة مسألة وقت لا أكثر.
وكما أنّ أبا حنيفة، وهو في العراق، أدرك أنّ الواقع القبلي الذي كان يتكلّم عنه جعفر بن محمد لم يكن قائمًا هناك، فأفتى وفقًا لواقعه، فكذلك الفقهاء اليوم من أتباع الإمام سيدركون ذلك بوضوح أكبر، ويتفقون مع أبي حنيفة.
لكن المسألة أعمق من هذا! فمشروع المدونة لا يقوم على حكم هنا أو هناك، إذ لو كانت القضية هي “التوفيق بين الأحكام” لأمكن - وبكل يسر وسهولة - التوفيق بين الأحكام ضمن القانون رقم (188). إنما الهدف الأبعد والأهم هو تكريس الهوية الطائفية داخل المجتمع العراقي، وخلق كيانية دينية موازية للدولة. ومن أجل هذا الهدف يمكن تذليل كل العقبات، حتى مسألة إرث الزوجة نفسها.
لذلك، لا تظنّوا أنّ إرث الزوجة من زوجها قضية عصيّة على التغيير! بل ستتغير !!!










