إسماعيل نوري الربيعي
يأتي كتاب "مسمى العراق" للأكاديمي نصير الكعبي، باعتباره محاولة علمية جادة للإجابة عن سؤال محوري طالما شغل الباحثين في التاريخ والهوية: متى وُلد اسم العراق؟ هل هو امتداد عميق الجذور للحضارات السومرية والبابلية القديمة، أم أنه نتاج إسلامي متأخر تبلور في ظل الدولة العربية الإسلامية وما تلاها من تحولات؟ من هذا السؤال ينطلق الكعبي ليبني سرداً معرفياً واسع المدى، يمزج بين الحفر في طبقات التاريخ واستنطاق النصوص اللغوية والتراثية والحديثة. ولا يقدّم الكتاب جواباً نهائياً بقدر ما يفتح أفقاً للنقاش، يكشف أن الاسم نفسه ظلّ عبر العصور مادة إشكالية تتقاطع عندها الجغرافيا بالسياسة، والهوية بالسلطة، والذاكرة بالتاريخ. اعتمد الكعبي منهج السرد التاريخي المتكئ على تنوع المصادر، فاستحضر نصوصاً سريانية وبهلوية-ساسانية، إلى جانب المدونات العربية والفارسية والإنكليزية. هذا التعدد مكّنه من رسم صورة مركبة لمفهوم العراق، لا باعتباره إقليماً جغرافياً فحسب، بل كدلالة ثقافية وسياسية متحولة، أعيد تشكيلها مراراً بحسب التحولات الكبرى التي عرفتها المنطقة. فالعراق عنده ليس مجرد مساحة بين دجلة والفرات، بل كيان لغوي-تاريخي تخلّق عبر فصول متعاقبة: من الإمبراطوريات القديمة، مروراً بالاحتلالات المتتابعة، وصولاً إلى الاستقلالات الحديثة وما رافقها من ثورات، ثم مرحلة الاحتلال المعاصر. وكأنّ التاريخ يعيد نفسه في صور متجددة.
من أبرز الأسئلة التي يثيرها المؤلف، مسألة النصوص الدينية والتاريخية حول مصطلح “أهل العراق”؛ ماذا كان يُقصد منه؟ وما حدوده الجغرافية والاجتماعية؟ فقد ورد هذا المصطلح في أحاديث وخطابات سياسية، مقروناً أحياناً بصفات محددة لسكانه أو بمواقف تميزهم عن غيرهم. ويقابله مصطلحات مثل “أهل الشام” و”أهل الحجاز”، وهي تعكس بدورها أنماطاً اجتماعية وثقافية متميزة. يتوقف الكعبي هنا عند دلالة التسمية بوصفها أداة لصياغة الهوية، مبرزاً أن “أهل العراق” لم يكونوا مجرد جماعة بشرية مرتبطة بجغرافيا، بل فئة ذات حضور خاص في المخيال العربي-الإسلامي. لكن الاسم لم يكن مستقراً عبر العصور. فالمصادر السريانية والبهلوية أشارت إليه أحياناً كتخوم فاصلة بين عوالم متباينة، وأحياناً أخرى كملتقى طرق حضارية. وفي المرحلة الإسلامية صار جزءاً من البنية السياسية للخطاب؛ فنقرأ عن عراق البصرة، وعراق الكوفة، وعراق العجم، في انعكاس لتعدد جغرافي وثقافي داخله. هكذا تكشف النصوص أن العراق لم يكن وحدة متجانسة، بل فسيفساء متشابكة، وأن معناه ظلّ متغيراً تبعاً للتحولات. بهذا المعنى يغدو اسم العراق حصيلة صراع طويل بين قوى محلية وإقليمية ودولية. ومع ذلك، بقي الاسم محتفظاً بجاذبيته ورمزيته في المخيال الجمعي، كهوية جامعة رغم الانقسامات. أما عراق ما بعد 2003 فقد شهد انفجاراً دلالياً، إذ انهارت السلطة التي كانت تحتكر تعريف “العراق”، ليتحوّل الاسم إلى ساحة صراع مفتوح بين طيف واسع من القوى والهويات السياسية والطائفية. كل طرف بات يملك عراقه الخاص وسرديته الخاصة، فلم يعد الاسم منطوقاً من جهة واحدة، بل تعددت الأصوات التي تتنازعه. وهكذا أصبح العراق عنواناً لمعانٍ متنافرة ومشروعاً مفتوحاً لإعادة التشكل.
إن قيمة كتاب الكعبي لا تقتصر على تتبع تاريخ الاسم، بل تمتد إلى تفكيك أبعاده الأنثروبولوجية والدلالية. فهو يوضح أن المصطلحات التاريخية مثل “أهل العراق” كانت انعكاساً لتفاعلات اجتماعية وثقافية وسياسية، وأنها شكّلت إطاراً لوعي جمعي ظل يتغير بتغير السياقات. ويبيّن أن حدود العراق لم تكن ثابتة، بل متأرجحة وفق ظروف الحكم والتحولات العسكرية والإدارية، ما يجعل المصطلح في ذاته تجسيداً لصراع بين الثابت والمتحول. ويتجاوز المؤلف الماضي إلى تحليل الراهن، مشيراً إلى أن لحظة ما بعد 2003 أطلقت تعددية في المعنى لم يعرفها العراق من قبل. إذ تحوّل الاسم إلى حقل تتصارع عليه الجماعات السياسية والطائفية، كل منها تسعى لاحتكار دلالته وإعادة تعريفه وفق مصالحها. وبذلك لم يعد الاسم مجرد علامة جغرافية، بل أصبح جزءاً من معركة رمزية موازية للصراع السياسي والعسكري. تكمن أهمية الكتاب في إبراز أن الأسماء ليست بريئة أو محايدة، بل هي محمّلة بذاكرة الصراع والتاريخ. فـ”العراق” ظلّ قابلاً لإعادة التفسير والتوظيف منذ نصوص الحديث التي صنّفت “أهل العراق” كجماعة ذات خصائص، وحتى الخطابات المعاصرة التي تتنازع على احتكار معناه. ويرى الكعبي أن الصراع الراهن على الاسم ليس حدثاً عارضاً، بل امتداد لمسار طويل من التنازع على هوية العراق وحدوده ومعناه. الجديد اليوم هو تعددية الأصوات في ظل غياب سلطة تحتكر التعريف، ما يجعل الهوية العراقية مشروعاً غير مكتمل، قابلاً لإعادة التشكل باستمرار. وبهذا لا يقدّم كتاب مسمى العراق إجابة نهائية عن سؤال ولادة الاسم، بل يحوّل السؤال ذاته إلى مدخل لفهم كيفية تحوّل الأسماء من علامات جغرافية إلى رموز سياسية وهوياتية. فالاسم انعكاس لصراعات القوى والمعاني، وهو مرآة للتاريخ أكثر مما هو إشارة جغرافية. وإذا كانت جذوره الأولى قد تعود إلى إشارات سومرية وبابلية أو نصوص سريانية وبهلوية، فإن تبلوره النهائي حدث في الإطار السياسي الإسلامي، ثم أعيد إنتاجه في العصر الحديث بقرار استعماري-دولي، وهو اليوم يعاد تفكيكه وإعادة تركيبه بفعل التغيرات المعاصرة.
تكمن القيمة المعرفية للكتاب في ثلاث خصائص رئيسة؛ أولها توسيع أفق المصادر، إذ لم يقتصر المؤلف على التراث العربي، بل استدعى نصوصاً سريانية وبهلوية وفارسية وإنكليزية، مما أتاح قراءة متعددة الأبعاد لمفهوم العراق. ثانيها الحفر التاريخي والمعرفي؛ فالكتاب لا يروي أحداثاً بقدر ما يكشف عن طبقات من المعنى تراكمت عبر العصور. وثالثها فتح النقاش لا غلقه؛ إذ يتعامل الكعبي مع سؤال أصل الاسم كسؤال مفتوح، يعكس طبيعة العراق ذاته كفضاء للتعدد والاختلاف. ومن خلال هذه المقاربة يرسّخ الكعبي وعياً جديداً بأن الأسماء ليست محايدة، وأن العراق ليس مجرد تسمية جغرافية، بل بناء معرفي وسياسي يتقاطع عنده التاريخ بالصراع. ومن ثم يظل السؤال عن لحظة ميلاد الاسم سؤالاً مؤجلاً، لأن العراق يولد من جديد مع كل تحوّل تاريخي. إن مسمى العراق يقدّم بذلك قراءة معمقة لهوية مكان وزمان يحملان هذا الاسم، كاشفاً أن تاريخه يتكرر بأشكال مختلفة. فالعراق الذي كان ملتقى حضارات وصراع إمبراطوريات وموضع إرادة استعمارية، هو ذاته العراق الذي يُعاد تعريفه اليوم وسط انقسامات داخلية وتدخلات خارجية. وهنا تكمن راهنية قراءة الكعبي، إذ تذكّرنا بأن الهوية سيرورة متحركة لا جوهراً ثابتاً، وأن “العراق” سيبقى اسماً مفتوحاً على احتمالاته، يلد نفسه من جديد مع كل دورة من دورات التاريخ.










