طالب عبد العزيز
مع أنَّه من واجبات الحكومة؛ أيَّ حكومة؛ توفير متطلبات الحياة لمواطنيها؛ إلا أنَّ الماء يقع على رأس واجباتها. اليوم، وبعد شهر من جريان الماء العذب في أنابيب البيت، وتساقط شلالاته على رؤوسنا، وتمتعنا به، شاكرين لا متملقين، الحكومة المحلية وكبيرها المهندس اسعد العيداني، الذي نتأمله في خلاص أنهارنا أيضاً من المدِّ الملحي؛ الذي نكَّد علينا حياتنا لثلاثة أشهر خلت، هلكت بسببه المزروعات والأشجار الصغيرة التي لا تقوى على الملوحة العالية، وتضررت بسببه كثيراً أشجار النخيل- اصفَّر السعفُ- وربما ستهلك إذا لم تكن السنة هذه رطبة، بتعبير وزارة الموارد المائية.
في عدد صدر سنة( 1308هـ-1891م) من مطبوع عثماني(بصرة ولايتي سالمنامة) نقرأ خلاف ذلك، فقد كانت البصرةُ تعاني من ندرة في الطرق الترابية، فلا سبل لإتصال الناس ببعضهم على الأرض؛ بين القرى والقصبات، بسبب غزارة الماء وتعقد شبكة الأنهار، التي تطوق المدينة من شمالها الى جنوبها. وفي وصفه للطرق يكتب محرر المطبوع:" أما المواصلات في البصرة فهي منحصرة بالسفن، وليس هناك طريق ولا جسر يستحق الذكر، فوسائط نقلها على الاطلاق منوطة بالسفن والزوراق الصغيرة، المُعبَّر عنها بـ (البلم). لكنه حين يأتي على وفرة الزروع والأشجار والنخيل والفاكهة والحبوب فلا تكاد نبتةٌ إلا ووجدت أرضا لها فيها، كذلك الحال مع الحيوانات فهو يؤكد وجود الداجن والوحشي منها، فيقول النمور والأسود والذئاب والحمر الوحشية، ولعل الاغرب من ذلك قوله :" أمّا الطيورُ فكثيرة، والسواد الأعظم من الناس يتعيشون عليها. في السنوات تلك أيْ قبل 135 سنة، وبسبب وفرة المياه والغابات التي تحيط بالمدينة لم تكن درجات الحرارة لتبلغ أكثر من 35 مئوية. مع أنه لا ينفي ربيع المدينة القصير الذي يبدأ في 15 شباط وينتهي في 15 آذار. من القراءة تلك سنعرف بأنَّ تراجع أحوال العراق في العقود الأخيرة أمرٌ مقلق، وأمرُ البصرة بخاصة، حتى ليبدو أنَّ قدرها الخراب، أو أنَّها لا تكاد تنهض حتى تكبو، وأنَّ عمارها محكوم بيد الاقدار، وذلك ما نجده في كتب تأريخها، القديم والحديث، فهي الخريبة بتعبير المسلمين الذين دخلوها في 14هـ، وهم الذين أغفلوا قرينها الجميل والمهم(الابلة) غير متأكدين من أنَّهم خربوها، بسبب من غزوهم ذاك، وشهيتهم في السلب والنهب والقتل... وإلا كيف نقرأ وصفها في الكتب القديمة حين حديثهم عنها:" وتجاورها بلدة يقال لها الابلّة، ذات القصور العالية، والمنازل الجسيمة، المواقع المهمة، والانهار المتدفقة، والبساتين الباسقة الأشجار الكثيرة، والاثمار الوفيرة، ولو قسنا ما ينقله التاريخ وتتناقله الالسن إذْ ذاك بالزمن الحاضر وعلمنا أنها كانت من الإسعاد والراحة والثروة بحيث يدهنُ أهاليها أبوابَ غرفهم بدهان الورد، ويرشون عرصات دورهم بماء الورد لخامرنا الذهول واستغرقتنا الحيرة».
يتبين لنا مما نقرأه في الكتب التاريخية بأنَّ البصرة كانت الخزانة الأكبر لدى الدولة العثمانية، التي حكمت العراق والمنطقة أكثر من 600 سنة، إذْ أنَّ قائمقام(قصبة) الكويت -كذا ترد دائماً- وعلى سبيل المثال؛ كانت تدفع له ماقيمته 150 طن من تمر البصرة سنوياً، والقصبة هذه كانت معفاة من الضرائب لأنها بلا موارد. في خاتمة(بصرة ولايتي سالمنامة) ينهي محرر المطبوع حديثه بجملة قصيرة،لكنها على غاية في الأهمية:" ولعمري لهذا القطر(البصرة) فضل لا يُدفع، وحقٌّ لا يُمنع، وواجبُ شكرِ الملل والنحل كافّة". ثم وكأنَّ التاريخ يعيدُ نفسه في حديث ما كانت عليه وما آلت اليه، فهو(محرر الجريدة العثماني) يتحدث عن ما كتب بأقلام من سبقوه، يسميهم (أهل الوثوق) من الذين قالوا بأنَّ ما دوّنهُ وألَّفهُ أربابُ العلم من أهل هذا القطر في عشرين سنة يساوي مدونات اليونان في 500 سنة. ثم يتحمس ويكتب: "وأيم الله إنَّ البصرة قد حيرت العقول في معموريتها، التي استغرقت 800 سنة، واستوفى عهد دولتي الاموية والعباسية، وهي محط الرجال، ومصدر الأموال، ومفتاح تجارة الهند والسند، ومخرج العراق والفرس، وسوق سابلة جزيرة العرب ووو.










