أنس الأسعد
صياغة فهمنا للكتب باعتبارها موجودات تحتلّ مساحة ملموسة في حياتنا، وتؤثّر في عواطفنا وذكرياتنا وطرق تعاملنا مع المعرفة، هو ما يُقدّمه كتاب "سحر محمول: تاريخ الكتب وقرّائها" للمؤلّفة البريطانية إيما سميث الذي صدر حديثاً عن دار المدى بترجمة رشا صادق، في قراءة لعلاقة البشر بالكتب، بعيداً عن الاكتفاء بالمحتوى النصي، بل بالتركيز على تجلياته الحسية والتاريخية والثقافية.
تسرد المؤلفة رحلة الكتاب عبر الزمن والأُمم، من بدايات الطباعة في الشرق والغرب، مروراً بغوتنبرغ، وصولاً إلى قصص خرافية تُحاكي خوف البشر من قوة الكتاب وسحره، مثل قصة "المعلم وتلميذه" التي ترمز إلى قدرة الكتاب على منح السلطة أو حرمانها. هذه القصص الفلكلورية تعكس مخاوف اجتماعية وثقافية منذ العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، إذ كانت الكتب ذات الأغلفة الجلدية والأقفال المعدنية تُقدّر لقيمتها المادية والرمزية على حد سواء.
يمثّل الكتاب امتداداً لاهتمام إيما سميث بالكتب وتاريخها، حيث تستعرض المؤلفة، في فصوله الستة عشر، مختلف جوانب حياة الكتب، وتربط بين المادية والرمزية للكتاب لتبرز دوره بوصفه كائناً حياً يتفاعل مع البشر، حيث يُبرز مفهوم "الكُتُبية"، وهو مصطلح تطلقه المؤلفة على العلاقة الحسية والمادية بين القارئ والكتاب. فالملمس، والرائحة، والتجليد، وألوان الغلاف، وحتى ترتيب الصفحات على الرفوف، كلها عناصر تشارك في تجربة القراءة. توضح سميث أن الكتب ليست مجرد أوعية للكلمات، إنما هي أدوات تفاعلية تتفاعل مع القارئ مادياً ونفسياً، بحيث يشكّل شكل الكتاب ومادته جزءاً من المعنى الذي ينقله. هذا الاهتمام يميّز الكتاب عن الدراسات التقليدية التي تركز على المحتوى أو "الكتابة الأفلاطونية"، مؤكدة أن الكتب البراغماتية، أو تلك الملموسة، هي ما تمنح القراءة نكهتها الفريدة.
تستعرض سميث فيها كتباً صنعت من مواد غير تقليدية، أو استخدمت لأغراض سياسية ودعائية، أو كانت موجهة لهواة الجمع بطرزها المتعددة، مثل الطبعات الحربية لسيرة الملكة فكتوريا أو النسخ المصورة التي ترتبط بالطفولة والذكريات. كما تتناول تفاصيل صغيرة مثل ترتيب الكتب على الرفوف أو الأقفال المعدنية على أغلفة المخطوطات، لتبيّن كيف أن هذه التفاصيل العملية تتحول إلى رموز ثقافية وطقوسية تعكس احترام القارئ للكتاب ولقيمته.
يمزج الكتاب بين الحكاية التاريخية والتحليل النقدي والفكاهي أحياناً. فقد تقدم سميث مثالاً عن الكتب التي توارثتها العائلات أو تضرّرت بفعل الاستخدام المكثّف، لتبرز أن الكتب، بغضّ النظر عن قيمتها النقدية أو الفنية، تصبح مميزة بفعل التجربة الشخصية والارتباط العاطفي بها. وتناقش كيفية تأثير شكل الكتاب على استقبال القارئ، من خلال أمثلة واقعية مثل طبعات الروايات الفاخرة أو كتب الكوميكس.
في فصول أُخرى، تستعرض سميث آثار الكتب على السلطة والمجتمع، موضحة أن الكتب يمكن أن تكون رموزاً للسلطة، أو وسائل للتلاعب والتأثير الاجتماعي. من المخاوف التاريخية المتعلقة بالرقابة على الكتب، إلى دور الكتب في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية، تعكس المؤلفة كيف أن الكتاب المادي قادر على زعزعة التراتبية الاجتماعية.
إيما جوزفين سميث هي باحثة أدبية من مواليد ليدز ببريطانيا، تعمل أستاذة دراسات شكسبير في جامعة أكسفورد، ومتخصصة في دراما العصور المبكرة وتاريخ الكتاب. نشرت عدة أعمال بارزة منها "هذا هو شكسبير"، كما ترشّح كتابها الأخير "سحر محمول" لجائزة وولفسون للتاريخ عام 2023. تشارك في أنشطة ثقافية وأكاديمية متعددة، والتعليق على البرامج الثقافية الإذاعية.
إيما سميث.. الكتب "سحرٌ محمول"

نشر في: 1 أكتوبر, 2025: 12:30 م









