TOP

جريدة المدى > عام > زهاء حديد… المعمارية التي لم تعرف الوسطية

زهاء حديد… المعمارية التي لم تعرف الوسطية

(من مذكرات لم تنشر بعد: زهاء حديد)

نشر في: 1 أكتوبر, 2025: 12:31 م

ميسون الدملوجي
تخرجت زهاء حديد من نفس كليتي في لندن قبل دخولي اليها بسنوات قليلة، وأصبحت مدرّسة فيها، وكانت في بداية شهرتها حينما دخلت أنا الكلية، وفازت عام 1983 بمسابقة (ذي بيك)[1] في هونغ كونغ، الا ان تصاميمها لم تكن تنفذ لعدة أسباب، من بينها فنطازية التصاميم وصعوبة فهمها من قبل المهندسين المدنيين وأرباب العمل على حد سواء. كما انها عانت من كونها امرأة في مجتمع العمارة الذي كانت تسيطر عليه الذكورية في ذلك الحين. وأدى عدم تنفيذ مشاريعها الى إطلاق لقب (معمارية الورق)، أي ان تصاميمها لا تجتاز الرسوم الهندسية، حتى نفذت بلدية برلين مبنى إطفاء الحريق (الدفاع المدني) عام 1993. ولم ينجح المبنى وظيفياً لمكافحة الحريق، ولكنه أصبح أحد معالم برلين المهمة لجذب السياحة. وبالرغم من عدم تنفيذ مشاريعها، فلقد اكتسحت شهرتها طلاب العمارة في العالم، حتى ان أحد الأساتذة في الكلية جال جامعات أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، وشكا بعد عودته ان الطلبة كانوا لا يسألونه عن منجزه وإنما عن أعمال زهاء حديد.
تربطني بزهاء علاقة قرابة بعيدة ذكرها والدها السياسي محمد حديد في أكثر من موضع في مذكراته، وذكر أيضاً ان عم والدي عبدالله الدملوجي هو من جاء به من الموصل الى بغداد بعد إنهاء دراسته في لندن. الا ان العلاقة بينه وبين عائلة والدي لم تكن متينة بسبب صدور أمر بالإقامة الجبرية بحق عمنا عبدالله بعد ثورة عام 1958، وحينما وصل الخبر الى محمد حديد الذي كان يشغل منصب وزير الاقتصاد قال: ليس بيدي شيء.
أما الوالدة فلقد كانت تكن له احتراماً كبيراً، وتذكر صوراً ناصعة عن التزامه بالمبادئ والأخلاق الراقية، وتعتبر ان موقف أهل والدي مبالغ به.
علمت بشكل مبكر ان زهاء منغمسة بالعمارة ولا تفكير لها خارجها، وتبحث عن كل ما هو جديد ومستفز للذهن، وعادةً ما كانت تسأل طلابها: ما الذي يجعلك تنبض؟[2] بمعنى انها تبحث عما يحفز الطالب للإبداع في عمله.
بعد عودتي من سفرة دراسية طويلة إلى البرازيل طلبت مني الكلية أن أقدم محاضرة للطلاب والأساتذة عن تلك التجربة، وكانت بحوزتي مئات السلايدات والصور للمدن والمباني التي زرتها، وفي مقدمتها برازيليا. وحينما وصلت القاعة وجدت زهاء جالسة في الصف الأول، وأبدت حماساً كبيراً لما أعرضه. ومما أثار استغرابي انها كانت تناقشني وتسألني باللغة العربية وبلهجة أهل الموصل، وكنت أجيبها بالانكليزية لكي يفهم الطلاب الحوار بيننا. وبالرغم من انني أتكلم العربية باللهجة البغدادية، الا انها كانت لا تتكلم معي الا باللهجة المصلاوية، وتكلم بقية العراقيين بالبغدادية، والعرب باللهجة اللبنانية.
كانت زهاء متطرفة بكل شيء، فهي تحب أو تكره بقوة، وتفرط بالطعام والتدخين، وكانت تحتقر الوسطية وتعتبرها مملة وقاتلة ولا طعم لها. وكانت سريعة البكاء، سريعة الزعل، مع ان لها قلب من ذهب وتمتلك جانباً لطيفاً ودافئاً الى أبعد الحدود. كان صراخها على طلابها يملأ ممرات الكلية حينما تغضب عليهم، فيتوقف الأساتذة في الصفوف الأخرى عن التدريس أو الكلام لبضعة دقائق الى أن تهدأ زهاء وتعود الى طبيعتها. كما كانت سريعة البديهية وتطلق نكتاً ذكية بشكل مستمر، ولا تتردد بالسخرية من الطلاب أو الأساتذة، ولا يزعل منها أحد.
كانت تتعامل مع طلابها مثلما اخوتها الصغار. تدعوهم الى بيتها وتطبخ لهم أطيب الطعام، ولا تتردد في أن تأمرهم بغسل الصحون بعد ذلك أو تنظيف المطبخ. وكان طلابها يحبونها كثيراً ولا يترددون بعمل أي شيء لإرضائها، بل أخبرني أحدهم بفخر يوماً انها طلبت منه أن يجلب لها ملابسها من محل التنظيف الجاف (اللوندري)، وانه قام بتلبية طلبها على وجه السرعة.
كانت زهاء تعشق شرب شاي حامض، أو ما يسمى نومي بصرة، وهو شاي عراقي بامتياز لا يعرفه غيرهم. وكانت تقدم منه لطلابها حينما يزورونها، وتشرح اليهم فوائده، ومنها انها تتركه على نار هادئة ساعات طويلة ولا تصيبه مرارة، وكل ما عليها هو إضافة الماء المغلي حينما يقل ماؤه. وبذلك اشتهر الشاي الحامض العراقي في الكلية، مع صعوبة إيجاد نومي بصرة مجففة وانحسار بيعها في المحلات العراقية والإيرانية، وكانت في الثمانينيات قليلة جداً.
عميد الكلية الأستاذ الفن بويارسكي[3] كان من أشد الداعمين لزهاء حديد وأكثر المدافعين عن أعمالها في أوساط المعماريين، وكان يسخّر إمكانيات الكلية ومواردها لعرض أعمالها ونشرها الى العالم والترويج لها. وفي تشييعه عام 1990، رأيت زهاء تصرخ وتبكي وتلطم كأي امرأة عراقية فقدت أخاً أو أباً أو عزيزاً، بينما زوجته وأولاده يحاولون تهدئتها.
ولا أنسى دعوة أقامها اللبناني جورج زعني في بيته الجميل في منطقة باترسي[4] بلندن مرة في أواخر التسعينيات، وكانت زهاء حاضرة، وتكلمنا طويلاً وسألتني عن مكتبي الذي كنت قد افتتحته قبل فترة قصيرة والأعمال المعمارية التي أقوم بتنفيذها. بعد قليل دخل أحد المدعوين، وكان يابانياً حسبما أذكر، وتفاجأ بوجود زهاء بين المدعوين، فما كان منه الا أن نزل على الأرض وقبّل قدميها تعبيراً عن إعجابه بها!
تطرفها بالعاطفة جعلني أميل بعلاقتي معها الى الرسمية منذ البداية، تفادياً لانفعالاتها، وأبقى الود والاحترام فيما بيننا الى ان توفاها الله عام 2016، وكانت في سنواتها الأخيرة تبعث الي عتباً عن طريق شقيقها هيثم الذي كنت ألتقيه كثيراً في بيروت، لأنني لم أتصل بها بعد عودتي للعراق. والحقيقة كان في نيتي الاتصال بها في كل زيارة الى لندن، وما أدراني انها سترحل عن العالم بهذه العجالة؟ .
[1] The Peak, Hong Kong
[2] What makes you tick?
[3] Alvin Boyarsky
[4] Battersea

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram