لطفية الدليمي
يبدو أنّ عصر (المشاعية الترجمية) أمسى اقرب مما نتخيل . ربّما بعد زمنٍ لا أحسبه يتجاوز العشر سنوات في أبعد تقدير ستؤول الترجمة المرغوبة إلى خيار متاح لنا: نطلب الكتاب الذي نرغب مع خيار اللغة التي نريده مترجماً إليها. هذا ما تنبؤنا به التطوّرات المتسارعة في حقل الترجمة الآلية التي شهدت تحسينات مبهرة حتى على صعيد المستوى الحسّاس الذي تشتبك فيه العناصر الدلالية والأسلوبية كما يحصل في الترجمات الأدبية أو الفلسفية أو الفكرية، على خلاف ترجمة الكتابات الخالية من تلك العناصر والتي أحرزت فيها الترجمة الآلية مستوى ممتازاً ومبشّراً بشكل الممارسة الترجمية في السنوات القليلة القادمة.
لكن برغم هذا، وفي الفترة الإنتقالية التي أتوقّعها عشر سنوات من اليوم، أرى وجوب التفكّر في طبيعة الترجمات التي نختارُها. ثمّة اشتراطات موضوعية تفرض سطوتها على طبيعة ونوعية ما نترجم. ليس لنا اليوم خيارُ أو رفاهية ترجمة كلّ ما نرغب فيه، وكذلك يتوجّبُ علينا التفكّر بعدم إغراق الفضاء الثقافي بعناوين كثيرة في ساحة متخمة بالعناوين التي ما انفكّت تتفجّر من الكثرة. العناوين النوعية المنتخبة الأقلّ هي المقاربة الأفضل من الكثرة غير المحسوبة. في هذا الشأن أعرضُ أربع قضايا أراها ملحّة ومهمّة في الفعالية الترجمية الراهنة، وسأدعم رؤيتي بشواهد موثّقة حتى تكون كلّ قضية صالحة لإثارة الإهتمام الجمعي بالترجمة.
القضية الأولى: وقعت أنظاري في بحثي اليومي عبر الشبكة الإتصالية العالمية (الإنترنت) على كتاب مترجم إلى العربية عنوانهُ (فلسفة اللغة: شرح الكلاسيكيات) للفيلسوف البريطاني كولن ماكغين Colin McGinn. الكتاب ممتاز وهو من منشورات منصّة (معنى) الفلسفية. عندما طالعتُ عناوين الكتاب راح سؤالٌ ملحٌّ يتردّدُ في رأسي: ماذا لو عمد المترجمُ إلى ترجمة كتاب (صناعةُ فيلسوف: رحلتي في فلسفة القرن العشرين)
The Making of a Philosopher: My Journey Through the Twentieth-Century Philosophy
وهو للفيلسوف ذاته. الكتاب الأخير أشبه بسيرة ذاتية فلسفية، وهو يتناول في فصوله الثمانية مسحاً موجزاً وكافياً للفلسفة في القرن العشرين في سياق محبّب من السرد البعيد عن صرامة كتابه الأوّل (فلسفة اللغة). تناول الفيلسوف في سياق تشكيله الفلسفي المؤثرات الأولى في طفولته، وانتقالته الجامعية من دراسة علم النفس إلى الفلسفة، والمنطق واللغة، والعقل والواقع، والوعي والإدراك، بل حتى أنّه أفرد فصلاً للفلسفة المتعالية Metaphilosophy والتخييل، وليس هذا غريباً عن فيلسوف مثله كتب روايتين منشورتيْن. أظنّ أنّ ترجمة الكتاب الأخير كانت خياراً أفضل من ترجمة الكتاب الأوّل لأسباب عديدة: فلسفة اللغة موضوع مقترن بالتخصص، ومن يشأ الإستزادة فيه فالمتوقّع أن تكون لغته الإنكليزية كافية لقراءة أدبيات هذا الموضوع في نصوصها الأصلية، والمعروف عن منصّة (معنى) أنّها تسعى لترويج الذائقة الفلسفية العامّة التي تشمل أوسع حلقات القرّاء.
القانون هنا هو: كلّما كانت الموضوعات المترجمة مكتوبة في سياق المذكّرات أو السيرة الذاتية أو حتى الشكل الروائي فستكون عنصر جذب لشرائح أوسع من القرّاء، وهذا ما تسعى له الجهات الناشرة سواء كانت تجارية خاصّة أم عاملة تحت مظلّة المؤسسات الثقافية الحكومية.
من المفيد الإشارةُ هنا إلى حقيقة أنْ ليست كل سيرة ذاتية تستحقُّ أن تكون بديلاً معقولاً عن موضوعات كاملة في الفلسفة أو سائر الحقول المعرفية. تكون السير الذاتية أحياناً غارقة في التفاصيل الشخصية كما في سير الروائيين أو الأدباء أو الممثلين أو نجوم الرياضة. هذه مسألة أخرى تماماً.
القضية الثانية: تجنُّبُ إغراق القارئ في العناوين العامّة. لنأخذْ مثلاً الكتب المترجمة تحت عنوان (تاريخ الفلسفة) أو العناوين القريبة منه(أسس الفلسفة، الفلسفة اليونانية، الفلسفة من عصر ... إلى عصر....) سنجدها كثيرة وتنطوي على تكرار كثير. في مقابل هذه الكثرة من التناول الفلسفي العام نشهد قلّة أو تواضعاً في أعداد الكتب المترجمة والتي تتناول توجّهات فلسفية محدّدة ومتّصلة بالثورات المعرفية والإدراكية التي أضرمت فتيل الثورات العلمية والتقنية المعاصرة.
العناوين العامّة فخّ كبير في الغالب يجب التنبّه له لأنّه ينطوي على خصيصة تكرارية تبعثر الجهد والوقت. لا أقول أنّ التكرار سيء بذاته؛ إذ ربما يجد بعضنا إعجاباً بأسلوب كاتب ما؛ لكنّي أقول أنّنا لم نعُدْ نملك رفاهية القراءة المسترخية في عناوين موضوعات مكرّرة لمحض أنّ أسلوب الكتابة أو المقاربة يختلف. كلّ قراءة جديدة يجب أن تحقق منفعة مباشرة أو غير مباشرة بوسائل يمكن التحقق منها.
القضية الثالثة: يمكن أن يختبر القارئ حالة كثيراً ما تتكرّرُ في المشهد الترجمي: يؤلّف مؤلفٌ ما كتاباً في موضوع ما فيحقّقُ مبيعات مليونية ونجاحاً واسعاً بالقياسات التجارية. تراه بعد زمن قليل وقد أصبح مدمن نشر، لا تكاد سنة تمرّ من دون أن ينشر كتاباً، وفي الغالب تكون المؤلفات اللاحقة لمؤلفه الأوّل أقلّ مستوى بكثير منه. هذه لعبة السوق التجارية، وهي فخّ تقتضي المروءة والنزاهة من جانب المترجم أن لا يعضّد هذه الألاعيب. هذه الحالة تحصل في الرواية أو الكتب التي تتناول شاناً وجودياً عاماً (مثل الحب) أو حتى العلوم (والفيزياء بخاصة). الغريب في الأمر أنّ أساتذة جامعيين لا يتورّعون عن الإنزلاق إلى هذه اللعبة. السبب واضح: كتابٌ واحد يبيع مليون نسخة سيأتي للمؤلف بمال لن تأتي له بمثله وظيفتُهُ الجامعية ربّما في عقد كامل من السنوات.
لو شئتُ أن آتي بأمثلة فهي كثيرة وعلى الجانبين الجيّد منه والسيئ. كتب (جم الخليلي) الفيزيائي البريطاني سلسلة كتب أراه حافظ فيها على نزاهته ورصانته، وقد ترجِمت إلى العربية وهي تستحقُّ عبء ترجمتها تماماً؛ أما في الجانب الآخر فثمّة سلاسل لمشتغلين بالفلسفة أراها مصطنعة ومكتوبة على عجالة وكأنّها أرادت قطف المحصول المالي الذي تحصّله المؤلف من باكورة كتبه. المرء في النهاية يستطيع الكتابة عن أي موضوع يشاء؛ لكنّ الفارق النوعي هائل بين كتابة يحفّزها شغف لا يهدأ، وأخرى مكتوبة بدافع الإستعجال في طلب المال استثماراً لشهرة الإسم قبل أن يتناوشه الذبول. سترى الفارق في كلّ سطر، ولن تشعر بذلك التوهّج الفكري الذي أشعلته فيك القراءة الأولى.
القضية الرابعة: هذه قضية حصرية تختصُّ بالذكاء الإصطناعي. يجب أن يكون واضحاً لنا جميعاً أنّ الذكاء الإصطناعي أبعد من مسألة ثورة تقنية رابعة او خامسة. إنّه عصر تنوير جديد ستشهد فيه البشرية إنتقالة ثورية غير مسبوقة. الذكاء الإصطناعي أكبر من منتجات تقنية مشخّصة. إنّه رؤية جديدة على أصعدة الوعي والهوية والآليات الدماغية ووسائل إكتساب المعرفة، فضلاً عن أهميته الستراتيجية التي وصفها الرئيس الروسي بوتين أفضل وصف وأدقّه عندما قال:"من يكسب معركة الذكاء الإصطناعي يفوز بالعالم".
ليس لنا إلّا أن نكون جزءاً من معركة الذكاء الإصطناعي المحتدمة، وأولى مستلزمات هذا المسعى هو أن نعمل على إشاعة أدبيات الذكاء الإصطناعي ومؤلّفاته وبخاصة في الجوانب الفلسفية والمجتمعية والإقتصادية المتّصلة به. إنّ كِتاباً على شاكلة (المتفرّدة باتت أقرب: عندما نندمج مع الذكاء الإصطناعي The Singularity is nearer: When We Merge with AI ) لمؤلّفه ذي الشهرة العالمية الضاربة راي كيرزويل Ray Kurzweil يجب أن لا تتأخّر ترجمته أكثر من ستّة شهور عن تأريخ إصداره، ولا أظنّ هذا الأمر قد حصل حتى اليوم. الأمر ذاته يصحّ مع كتاب )الموجة القادمة: التقنيّة والقوّة والمعضلة الأعظم في القرن الحادي والعشرين The Coming Wave: Technology, Power, and the Twenty First Century’s Greatest Dilemma (لمؤلّفه مصطفى سليمان Mustafa Suleyman، عبقري صناعة البرمجيات والذكاء الإصطناعي. لو شئت لأوردتُ عشرات العناوين الشبيهة.
هذه القضايا هي تفكّر شخصي نجم عن عملي في المشغل الترجمي، وهي ممّا أحسبه وأتوسّم فيه القدرة على تحريك مياه الفعالية الترجمية تحقيقاً لرغبتنا الطبيعية في أن نكون – كعرب – جغرافية ثقافية تتعامل بصيغة تفاعلية مع ضواغط العصر وانشغالاته ولا تكتفي بالعمل الترجمي الرتيب في عناوين أو موضوعات أو أسماء غير مؤثرة في تشكيل ثقافة الفرد الذي صار يعيش متاهة حقيقية من العناوين المترجمة فضلاً عن المؤلفات.
المترجم الجيّد هو من يساعد القارئ على تلمّس طريقه وسط عماء المتاهة الترجمية بدلاً من أن يتركه ليغرق فيها وحيداً من غير معونة.
كيف نخطط لأساسيات الترجمة ؟

نشر في: 1 أكتوبر, 2025: 12:34 م









