TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أخطرُ الفسادِ وأفجَعه: تجارة الطِّبِ!

أخطرُ الفسادِ وأفجَعه: تجارة الطِّبِ!

نشر في: 2 أكتوبر, 2025: 12:14 ص

رشيد الخيون

ليس هناك فسادٌ حميدٌ وآخر خبيثٌ، لكن إذا تكاثرت أسراب الجراد، يُميز بين فساد وآخر، وقد دق النَّاقوس مجد الدِّين النَّشابيّ (ت: 657هج)، والمغول على بوابات بغداد: «إذا ترامت أمور النَّاس ليس لهم/ فيها دواءٌ ولا حزمٌ وأنجادٌ» (الحوادث)، وبفساد الطِّب لا حِيلة تُرجى.
استمعتُ لحديث دار بين أطباء، خسرَ أحدهم عمله، لأنّه اعترض على استغلال النَّاس مِن قِبل مستشفى خاص، بما يُخالف «عهد أبقراط». قد يهون الإكثار مِن الفحوصات والأدوية بلا حاجة، ولكن إجراء عمليةٍ، بلا سبب، لأجل المال ما ليس في الحِسبان، ولما اعترض الطَّبيب صارحته إدارة المستشفى، لهذا الإجراء ما يبرره، لزيادة العائد، ولا خطر على المريض! اِحتجّ صاحبنا بما قَسَم عند تخرجه، فتقرر تنحيته لعدم تعاونه.
ليس لدى المريض حيلة، عليه الثِّقة بالطَّبيب ثقةً عمياءَ، فلا يحسب حِساب خيانته بدواء زائد، وفحوصات زائدة مكلفة، لا يعلم أنه لا يحتاج إليها، فالطِّبيب هو «الخصم والحكم»، ناهيك عن بيع المرضى، والاتِّفاق التِّجاري بين أطباء وصّيادلة.
كان الطَّبيب سنان بن ثابت بن قرِّة (ت:332هج)، بمثابة وزير الصّحة ببغداد العباسيَّة، يقوم باختبار الأطباء المعينين، أشكل على أحدهم أنّ المنطقة الفلانيّة سكانها يهود، فماذا يفعل؟ فكتب إليه «رسم البيمارستان (المستشفى) أنْ يُعالج فيه المليّ والذِميّ»، ونظّم أطباء جوالين، يطوفون على قرى السّواد، كلّ منهم يحمل خزانة أدوية وأشربة، كان الصَّرف على المستشفى مِن سجاح أمّ المتوكل على الله (الطَّبيب ابن أبي أُصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء).
كان السّؤال والجواب عن علاج غير المسلمين قبل أحد عشر قرناً، غير أنَّ فضيحة العصر، أنَّه قبل سنوات وقعت بيدي مجلة، تصدر بالغرب، تنشر الاستفتاءات والرّدود عليها، وإذا بطبيبةٍ تسأل المفتي: هل يجوز نجدة الجار غير المسلم في وضع صحي طارئ؟ أجاز لها المفتي بشرط «الحِشمة»، أجاب المفتي بما يُملي عليه الفقه، لكن ماذا يُرجى مِن الطَّبيبة المستفتية، ماذا أبقت لعقلها، وقَسَمها الطِّبيّ؟
نزيد أكثر عن مخاطر فساد الطَِب وفواجعه، أنّ أطباءَ، كانوا يعملون في دوائر الأمن، في الأنظمة العاتية بدكتاتوريتها، مهمتهم فحص المحبوس بعد كلّ فصلٍ مِن العذاب، هل يتحمل عذاباً إضافياً أم لا؟ وبعضهم استُخدموا في تركيب السّموم لقتل الخصوم، وهذا ما نبّه إليه الطِّبيب أبقراط في عهده الشّهير.
دأب الأطباء، عند التّخرج القسم بما صاغه أبقراط، فمهنة الطَّبيب يوزن بها الضّمير بأدق مِن ميزان الذَّهب، يردد المتخرج، ولكّل نظام طبي تصرفه بالكلمات: «إِنِّي أقسم بِاللَّه رب الْحَيَاة وَالْمَوْت وواهب الصِّحَّة وخالق الشِّفَاء وكل علاج... على أَنِّي أَفِي بِهَذِهِ الْيَمين وَهَذَا الشَّرْط».
يقسم الطَّبيب الجديد: «لَا أعطي إِذا طُلب مني دَوَاء قتَّالاً، وَلَا أُشير أَيْضاً بِمثل هَذِه المشورة، وَكَذَلِكَ أَيْضاً لَا أرى أَن أدني من النسْوَة فرزجة (آلة طبية) تسْقط الْجَنِين، وأحفظ نَفسِي فِي تدبيري، وصناعتي على الزَّكَاة وَالطَّهَارَة، وَلَا أشق أَيْضاً عَمَّن فِي مثانته حِجَارَة، وَلَكِن أترك ذَلِك إِلَى من كَانَت حرفته هَذَا الْعَمَل».
يختم أبو الطِّب أبقراط عهده بالكلمات الآتية: «فَمن أكمل هَذِه اليَمين، وَلم يفْسد شَيئاً، كَانَ لَهُ أَن يكمل تَدْبيره وصناعته، على أفضل الْأَحْوَال وأجملها، وَأَن يحمده جَمِيع النَّاس فِيمَا يَأْتِي من الزَّمَان دَائِما» (ابن أبي أصيبعة، المصدر نفسه).
إنَّ قصة الفساد في الطِّب ليست جديدة، فالشُّعراء فضحوا أطباء، عندما تعرضوا لمثل هذه المواقف، يتحول بها الطّبيب قبوريَّاً يسره موت النّاس. بهذا المعنى قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر (300هج): «ما كنت أحسب أنَّ الدّهرَ يجعل/ أمراضَ الأعلّاءِ أعراس الأطبّاءِ/ حتَّى تبيّن في ذا الدّهر أنّ تجارات/ الأطبّاءِ أسقامُ الأعلّاءِ» (الثَّعالبيّ/ التَّمثيل والمحاضرة). أقول: إذا أصبح الطِّب مِن التِّجارات ويتصرف الطَّبيب وفق الدِّيانات والسِّياسات فاقرأ على الصِّحة السَّلام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كاظم مصطفى

    منذ 2 شهور

    ليس على الصحة سلام بل على البلاد وشعوبهم السلام فصحة الفرد والبلاد من صحة الحكام اي عقولهم !!

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram