محمد حميد رشيد
( 2-2 )
التوجه من البداوة نحو المدنية خطوة ضرورية للتوجه الحضاري حيث أن البداوة بدأت في الإنحسار إلا في زوايا صغيرة مظلمة من الكرة الأرضية حيث توجد بعض القبائل المعزولة أو التي لا تزال تعيش بأسلوب حياة تقليدي بعيدًا عن مظاهر الحضارة الحديثة هذه المجتمعات تُعرف أحيانًا بالقبائل "غير المتصلة" أو "البدائية"، لكن من الأفضل وصفها بأنها قبائل أصلية أو تقليدية ومنها :
(«البدو العرب" شمال الجزيرة العربية وصحراء النقب وسيناء ؛ "الطوارق" في الصحراء الكبرى، خصوصًا في مالي والنيجر والجزائر ؛ "البدو المنغوليون" ؛ "النينيتس" في سيبيريا ؛ "السامي" في شمال أوروبا (النرويج، السويد، فنلندا)؛ "السنتينليز" جزيرة نورث سينتينل (الهند) ؛ "اليانومامي" غابات الأمازون (البرازيل وفنزويلا) ؛ " قبائل يالي" بابوا إندونيسيا ؛ "قبائل سورما" وادي أومو، إثيوبيا ؛ "شعب تسيمانه" بوليفيا).
هذه المجتمعات منعزلة تماماً عن المدنية وتعيش في قرى صغيرة منعزلة تماماً وفي بيئة صعبة للغاية تساعدهم على الإنعزال في صحاري قاحلة وصحاري جليدية وغابات كثيفة وقسم منهم يعيشون حياة وحشية ومنهم العراة ومنهم من لازال يأكل البشر ارعاباً لأعدائهم او المتطفلين على مجتمعاتهم يعيشون في عزلة تامة أو نسبية لكنهم بالمجمل بعيدين عن المدنية فضلاً عن الحضارة ؛ وهم لهم طقوسهم وقوانينهم وشخصيتهم الخاصة . وقانون القوة والرعب هو السائد في هذه المجتمعات وقد تتغول قبيلة قوية كبيرة على اخرى صغيرة فتفرض سيطرتها عليها وتبتلعها لزيادة نفوذها وتكبير رقعتها الجغرافية ؛ وهم يتناسلون بكثرة لأن العدد هو أحد عناصر قوة القبيلة ؛ ودائماً هناك قيادة تمتاز بالقوة والشراسة وقد تستعين في بعض الأحيان بالسحرة والمشعوذين المخرفين (الذين يرمزون إلى مصدر أساسي "مقدس" من مصادر ثقافة القبيلة المنعزلة هذه) ؛ قيادات هذه التجمعات المتخلفة السكانية كانت أما "شيخ القبيلة" وهو منصب متوارث وأحياناً "مقاتل القبيلة الشرس" الذي يسيطر على القبيلة بقوته على القتال ويخيف أعدائه وفي بعض الأحيان يقود القبيلة "الساحر أو المشعوذ" كونه يمتلك قوى غيبية خارقة وفي كل الاحوال الصراع على "السلطة" لا ينقطع سواء من داخل القبيلة أو من خارجها لذا كان مفهوم "السلطة" يختصر "بالقوة" بأشكالها المختلفة ولا يجرؤ أحد على الخروج عنه لأن اي خروج يؤدي إلى ضعف القبيلة وتشتتها ويغري أعدائها بها وكل ما سواها وما حولها أعداء يجب الحذر منهم وحتى أن وجدت تحالفات مع بعض القبائل المحيطة فهو مؤقت ولأغراض دفاعية "تكتيكية" لكن المبدأ الأساسي بين تلك القبائل المنعزلة هو عدم الثقة و"إحتواء القوي" ودائما هناك مفهوم " الغزو" ولا بقاء للضعيف يجب ان تكون قوياً ومخيفاً ووحشياً.
كل هذه المجتمعات البدائية (المتوحشة وغير المتوحشة) تجمعهم صفة واحدة مشتركة لدى الجميع أنهم لا يفهمون معنى "الدولة" ! بل الدولة بالنسبة لبعضهم عدو غير مرغوب فيه ! رغم ان الدولة تقدم لهم الكثير من المغريات والخدمات لضمهم الى سيادتها لكنها في الغالب تفشل وتبقى تلك المجتمعات معزولة عن التحضر والدولة لأنها في النهاية نهاية لوجودهم ؛ والإنتقال من البداوة إلى المدنية فهم لا يعرفون معنى "الدولة" ويتوقفون عند معنى "السلطة" واذا ما كانت هناك "من" تحالفات بين تلك القبائل والدولة فهي لتعزيز إستقلالهم عن الدولة والمدنية والحضارة أو مجرد الحماية الخارجية لوجودهم الشاذ!
كلهم يمتلكون (سلطة) تحكمهم ولا يمتلكون (دولة) هذه السلطة قد تكون سلطة رئيس القبيلة او ساحر القبيلة او مقاتل القبيلة الشرس او اشدهم وحشية و اجراماً والذي يخرج سالماً من صراع التصفية الدموي المستعر دائماً في مجتمعاتهم سواء التصفية الداخلية أو الصراعات الخارجية .
لذا كانت أول مرحلة في الإنتقال من البداوة إلى المدنية هي تأسيس (الدولة) فهي نتاج تطور اجتماعي وثقافي طويل تطور فيه مفهوم (الدولة) من أقدم أشكال الدولة التي ظهرت في الحضارات القديمة مثل سومر في بلاد الرافدين (3000 قبل الميلاد) ومصر الفرعونية، والصين القديمة وكانت مجتمعات البداوة تلك تعتمد على السلطة المركزية ، القانون العرقي او القبلي ، والجيش. وغالبًا ما ارتبطت بالحكم الديني أو الملكي المطلق. ثم تطور تدريجيًا عبر مراحل مختلفة من التنظيم الاجتماعي. حتى وصلنا إلى مفهوم الدولة بشكل واضح مع نظرية العقد الاجتماعي التي طرحها (هوبز، ولوك، وروسو) ، حيث أصبحت الدولة نتيجة اتفاق بين الأفراد لحماية حقوقهم! والحقيقة أن سلطة القبيلة كانت ايضاً لحماية حقوقهم في العيش إلا أن الدولة تتكفل بالحماية وتوفير الأمن ومستلزمات العيش وتطوير الحياة المدنية والإجتماعية والإقتصادية ؛ وفي العصر الحديث تطور مفهوم الدولة كمصطلح سياسي وفلسفي خاصة في الفكر الأوروبي وظهرت فكرة الدولة القومية في أوروبا بعد انهيار النظام الإقطاعي وصعود البرجوازية، خاصة في القرن 17 و18. ثم تطور إلى مفهوم مطلق في (الدولة الحضارية) وهكذا فان تطور مفهوم الدولة هو تطور نحو مفهوم الحضارة والمدنية وبالعكس كلما تراجع مفهوم الدولة فأنه عودة إلى المجتمعات المتخلفة وسقوط للمدنية ؛ لذا وجب علينا ان نرسخ لمفهوم الدولة العراقية وتقويتها وإبعاد ومراجعة كل ما يمكن أن يضعف الدولة ولقد انهارت دول عظمى عندما ضعفت الدولة (من أهم اسباب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه نتيجة أزمة اقتصادية) ؛ ومن (أهم) اسباب ضعف الدولة :
تعدد مراكز القوى داخل بنيان الدولة يضعف القيادة السياسية ؛ قوة القانون وعدالته التي يحكم الدولة ؛ انقسام النخب الحاكمة وتنازعها على السلطة ؛ فساد المؤسسة الحاكمة والفساد الإداري والمالي لمؤسسات الدولة يؤدي إلى فقدان الثقة بين الشعب والحكام ؛ الازمات الإقتصادية ؛ ضعف المؤسسات الأمنية والعسكرية الضامنة لإستقرار الدولة وفرض تنفيذ القوانين القضاء العادل والمستقل عن أي تأثيرات خارجية عليه .
وعندما نحدد ركائز الدولة المستقلة والمستقرة نعرف ما هو تعريفها وكيف نقويها أو نضعفها وندمرها وهذه الركائز الاربعة هي (الأرض والشعب و السلطة المنظمة والسيادة ) وكل ما يضعف الشعب او يقسمه أو يقسم أرضه او يشعل الصراعات بين طوائفه ومكوناته يضعف الدولة وكل ما يضعف السلطة التي يعتمد عليها الشعب والمفوضة من قبله لتنفيذ العدالة وفرض القانون وكلما كانت السيادة ناقصة كانت الدولة ضعيفة. وعلى هذه القواعد يمكننا تقييم أداء الدولة ومصداقيتها وقوتها ومنها الدولة العراقية (السلطة العراقية).
وعدم عدالة الدولة ينتج مؤسسات ضعيفة قائمة على المحاصصة وليس على الكفاءة والخبرة وتعدد المؤسسات الامنية والعسكرية ينتج تعدد مراكز القوة وتصارعها والتناقض فيما بينها وكلما زادت الضغوط على القضاء زاد إنحرافه وفقد الشعب الثقة بمن كان مرجوا منه تأمين الامن والعدالة ؟!. فإذا وصل الأمر ان السلطة هي الفاسدة وتحمي الفاسدين وهناك مراكز قوى ومؤسسات مقدسة لا يجوز نقدها أو المساس بها واخرى غير مقدسة تؤجج التنافس والصراعات فيما بينهم تفقد تلك المؤسسات أهميتها وتتخلى عن الواجب الذي انيط بها وكلما زادت التدخلات والضغوط السياسية على مؤسسة القضاء اخل ذلك بإستقلاليتها وفقدت مصداقيتها ؛ ولا مدنية بلا دولة ولا حضارة بلا مدنية وسقوط المدنية سقوط للحضارة ؛ وبلا مدنية يعني العودة إلى مجتمع البداوة الذي يقوده الشيخ أو الساحر أو المقاتل ويعني التخلف والإندحار أمام التحديات الحضارية وفي النهاية الإندحار بكارثة وتكالبت عليها الكلاب تريد إفتراسها وإضعافها وتقسيمها !
فبأي خيار هو العراق؟










