ثائر صالح
الجزء الأول
السماع إلى الموسيقى والاستمتاع بها لا يعنيان ظاهرة الموسيقى فقط، بل التعرف على ما وراء الموسيقى ذاتها: من هو مؤلفها، أين ومتى وكيف كان يعيش، وما هي حالة المجتمع والعالم آنئذ، الاقتصاد والثقافة والعلوم والعادات والأعراف التي أثّرت على المؤلف الذي بذر هذا التأثير في موسيقاه التي أصبحت خالدة، ليس بمعزل عن ذلك الظرف التاريخي. هذا هو الجانب الأهم الذي أبحث عنه في كتاباتي الأسبوعية، لأن تقديم صورة عن ظروف نشأة الموسيقى ليس أقل أهمية من الموسيقى ذاتها.
تاريخ الأمريكتين هو تاريخ الاستيلاء على أرض الآخرين واستعباد ملايين الأفارقة الذين جلبتهم شركات بريطانية وإسبانية وبرتغالية وهولندية بعد شرائهم من التجار العرب الذين "اصطادوهم" ونقلوهم إلى مرافئ ساحل الأطلسي أو بحر العرب. ولا تزال تلك الفترة المشؤومة التي يباهي بها الغرب تلقي بظلها الكئيب على العالم "المتحضر".
لم يغير حظر العبودية والاتجار بالعبيد حياة الملايين على الفور إذ لا يزال التمييز العنصري قائما في الكثير من بقاع العالم. حدث إلغاء العبودية في بريطانيا في 1834 حيث حرّم امتلاك العبيد في الإمبراطورية، جاء هذا بعد سن قانون في سنة 1807 يحّرم الاتجار بالعبيد لكنه لم يحرّم امتلاكهم. وقد أطلقت مجموعات من النساء حملات تدعو لتجريم العبودية، منها حملة سيدات في شفيلد بقيادة آن ماري راوسون وامها إليزابث ريد في سنة 1825. وقد حظرت فرنسا العبودية في 1818 وثبتت ذلك رسميا في 1848.
أما الولايات المتحدة فقد حدث التغيير بصورة أبطأ بسبب الأهمية القصوى لنظام العبودية في الاقتصاد الزراعي. فقد أبقى دستور 1776 على العبودية، ولم يحرم استيراد العبيد إلا في 1808، والعبودية ذاتها في 1865 (التعديل الثالث عشر على الدستور) دون أن يعني ذلك حصول السود على حقوقهم المدنية كاملة حتى عقود مضت. وقد نقل ملايين المستعبدين تراثهم من وطنهم أفريقيا بضمنه الموسيقي، وطوروا أغانيهم الحزينة التي ترتبط بالحيف الهائل الذي لحق بهم. كانت أغاني العمل ورقصات الزنوج نواة لموسيقى الجاز والبلوز لاحقاً، الموسيقى التي حاول الصناعي هنري فورد طمسها أو منافستها بتمويله الفرق الموسيقية والمسابقات التي أدت إلى ظهور الفن المسمى كونتري، وهو أسلوب غنائي استند إلى تقاليد الموسيقى الشعبية في شمال أوروبا وبريطانيا التي جلبها البيض معهم.
لا بد من الإشارة إلى أن ما هو اليوم معيب أو محظور مثل استعباد بني البشر أو بيع العبيد، لم يكن كذلك على الدوام. فالعبودية موجودة في أرقى المجتمعات منذ العالم القديم، عند الأكديين مثلاً، نظمتها شريعة حمورابي بقوانين عديدة. وما هو مدان اليوم لم يكن كذلك قبل نصف قرن مثلاً، إنما وصلنا إلى ذلك بفضل نضال طويل ومرير من أجل الحقوق المدنية التي يلتف عليها اليمين الشعبوي اليوم. لذلك يجب وضع كل شيء في سياقه التاريخي ومحاكمته ضمن شرائع ذلك العصر وعاداته الاجتماعية وليس بمنظورنا المعاصر.