طالب عبد العزيز
ما الذي يريده هؤلاء؛ الذين انفطفأتْ فوانيسُ قلوبِهم، ولماذا لا يجدون السبيل الى ينابيع النور التي تملأ الأرضَ والسماء، والى أيِّ دركٍ خربٍ ستقودهم بغضاؤهم وضغائنُهم هذه؟ ليس بيننا قطعاً من كان السبب بوقوفهم في الأسئلة، وتحجّرهم بأمكنتهم، يبحثون في مساقط ضوء الآخرين عن أسمائهم البائسة، ويمتهنون الخسارات الكبرى، يوم لا تجدي النفاجة شيئاً، ولا يُستثمرُ في الخُيلاء إلا من غلظَ قلبُه، واستوت آلةُ الحقد على آلةِ الصفح في نفسه، هؤلاء الذين مازالوا يوترون أقواسَهم، ثم يعصبون أعينهم، غير مبالينَ بما يطيشُ من سهامهم؛ إلى مَ سيظلون هكذا، ملقين بدثار خيباتهم على هذا وذاك، وحتى مَ يتوسلون الناسَ مجداً وكرامةً، وهم لا يملكون من حاضرهم أكثر مما جاد عليهم به نصفُهم الأولُ المضيء، فتراهم يشهرون سيوفهم الصدئة على رؤوسٍ أذنَ الله إلّا أنْ تسموَ وتُرفعَ، كارهين صورَهم، التي ظلت تجمد حقداً؛ فيما تمورُ الدنيا من حولهم بالدعة والطمأنينة والسلام.
فيا أخي: افرحْ؛ حين تمرّ باثنينِ عاشقينِ، جالسينِ على مصطبة في الحديقةِ العامة، وإنْ كنتَ لم تجلسْ عليها مع أحدٍ يوماً، تأمّلْ الشارعَ والمدرسة والسوقَ بألوانها، وأعمدتها المضاءة، وبوجوه العابرين من الجهة هذه الى تلك، سترى البريقَ المشعَّ لاصفاً ،ومغرورقاً بأعينهم، ثقْ به سيسبغ الهناءة على يومك، قلْ لصباحك: أنتَ الاجمل، وإن كنت بلا صباحاتٍ جميلة، اِملأ روحك بضوء ما حولك؛ وإن كانت روحك بأقمار قليلة، كنْ الكتفَ لمن لا يجد كتفاً يبكي عليها، وكن اليد التي لا تمتدُّ إلا لتهبَ وتُعطي، وكن الارضَ لمن لا يجدُ في التراب متسعاً لحضره وسفره، اتخذ من عفيف القلب واللسان خِدناً، ذلك أنقى لبدنك، واصطفْ ما استطعت سبيلاً الطَّاهرَ والنقيَ، وإن لم يكن الطهرُ والنقاء يوما من أمتعتك، لكنْ، تطهّر من آثامٍ ما حملت وأخذت، أحسنْ الظنَّ يوماً بأحدٍ، أيَّ أحد، أو اذهب الى نهر المحبة، والق بجسدك فيه، في الأنهار تلك ماءٌ كثيرُهُ نور، وقليلُه عطرٌ وسؤدُد.
هذا الأخضرُ بن يوسف، الشاعرُ الذي لم يطله في العربية أحدٌ من المحدثين، وقد نيَّفَ بكتبه على المئة، شعراً وترجمةً، وطافت الآفاقُ بأسمائه ولغاته الكبرى؛ لكنه، حين سئل عن شعر بدر شاكر السيّاب، وما إذا كان يشبهه بشيء! قالَ بأنَّ آلةَ لغتي لا ترقى إلى آلة لغة بدر. ولم يأت على ذكر اسمه يوماً إلّا وتقدمه بقوله: العظيم بدر، وهو في العربية والعالم أكثر منه في البصرة والعراق مع الأسف. بالأمس تعرَّض أحدُهم الى واحدٍ من أجمل وأهمَِّ أعمال الروائي فؤاد التكرلي، ورأى فيه عملاً مترهلاً أو ما يشبه ذلك، وهناك من لا يرى في الثقافة العراقية والعربية شيئاً ذا أهمية، وكما لو أننا في مسرح للدّمى الهزيلة، تعرضَ أدباءُ معروفينَ الى الإساءة من نفرٍ يدّعون الثقافة، تحركُهم أصابعُ معروفة، خسرت رهانها السياسيّ والثقافي، في فعل صبيانيٍّ مشين.
نحن، وفي وحشية ما يحدث من حولنا؛ أحوج ما نكون الى إشاعة النور، عبر الاحتفاء بالثقافةُ والفنون حيث وجدنا الى ذلك سبيلاً، ليس في بلدنا حسب إنّما في مشرق ومغرب العربية، وفي لغات العالم أيضاً، حيث يتوجب علينا أن نحتفل بالكتاب الاجمل، ونثني على الجهود، ونبارك من يسطّرون آيات الجمال، إذْ كلُّ كتاب في الشعر والرواية والرسم والترجمة مشنقة تنصبُ للظلام، ومِظلةٌ تقينا مطر السَّوء، فلماذا نعيبُ على الذين أخذوا بأيدينا الى الينابيع، حسبهم ما قاموا به، والجهد الذي بذلوه، والنور الذي جاؤوا منه.










